(الباب السابع والخمسون في معرفة الخواطر وتفصيلها وتمييزها)
(أخبرنا) شيخنا أبو النجيب السهروردي قال: أخبرنا أبو الفتح الهروي قال: أنا أبو نصر الترياقي قال: أنا أبو محمد الجراحي قال: أنا أبو العباس المحبوبي قال: أنا أبو عيسى الترمذي قال أبو هناد قال: أنا أبو الأحوص عن عطاء بن السائب عن مرة الهمداني عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ لِلشَّيْطَانِ لَمَّةً بِابْنِ آدَمَ، وَلِلْمَلَكِ لَمَّةً، فَأَمَّا لَمَّةُ الشَّيْطَانِ فَإِيعَادٌ بِالشَّرِّ وَتَكْذِيبٌ بِالْحَقِّ، وَأَمَّا لَمَّةُ الْمَلَكِ فَإِيعَادٌ بِالْخَيْرِ وَتَصْدِيقٌ بِالْحَقِّ، فَمَنْ وَجَدَ ذَلِكَ فَلْيَعْلَمْ أَنَّهُ مِنَ اللهِ فَلْيَحْمَدِ اللهَ، وَمَنْ وَجَدَ الأُخْرَى فَلْيَتَعَوَّذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ»، ثُمَّ قَرَأَ: «﴿الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ﴾» [البقرة: 268].
وإنما يتطلع إلى معرفة اللمتين وتمييز الخواطر طالب مريد، يتشوف إلى ذلك تشوف العطشان إلى الماء، لما يعلم من وقع ذلك وخطره وفلاحه وصلاحه وفساده، ويكون ذلك عبدًا مرادًا بالحظوة بصفو اليقين، ومنح الموقنين، وأكثر التشوف إلى ذلك للمقربين، ومن أخذ به طريقهم، ومن أخذ في طريق الأبرار قد يتشوف إلى ذلك بعض التشوف؛ لأن التشوف إليه يكون على قدر الهمة والطلب والإرادة والحظ من الله الكريم، ومن هو في مقام عامة المؤمنين والمسلمين لا يتطلع إلى معرفة اللمتين، ولا يهتم بتمييز الخواطر.
(ومن الخواطر) ما هي رسل الله تعالى إلى العبد، كما قال بعضهم لي: قلب إن عصيته عصيت الله. وهذا حال عبد استقام قلبه، واستقامة القلب لطمأنينة النفس، وفي طمأنينة النفس يأس الشيطان؛ لأن النفس كلما تحركت كدرت صفو القلب، وإذا تكدر طمع الشيطان، وقرب منه؛ لأن صفاء القلب محفوف بالتذكر والرعاية، وللذكر نور يتقيه الشيطان كاتقاء أحدنا النار.
(وقد ورد) في الخبر: «إن الشيطان جاثم على قلب ابن آدم، فإذا ذكر الله تعالى تولى وخنس، وإذا غفل التقم قلبه فحدثه ومَنَّاه». وقال الله تعالى: ﴿وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ﴾ [الزُّخرف: 36]، وقال الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ﴾ [الأعراف: 201].
فبالتقوى وجود خالص الذكر، وبها ينفتح بابه، ولا يزال العبد يتقي حتى يحمي الجوارح من المكاره، ثم يحميها من الفضول، وما لا يعنيه، فتصير أقواله وأفعاله ضرورة، ثم تنتقل تقواه إلى باطنه، ويظهر الباطن ويقيده عن المكاره، ثم من الفضول حتى يتقي حديث النفس.
(قال) سهل بن عبد الله: أسوأ المعاصي حديث النفس، ويروي: الإصغاء إلى ما تحدث به النفس ذنب فيتقيه، وبتقة القلب عند هذا الاتقاء بالذكر اتقاد الكواكب في كبد السماء، ويصير القلب سماءً محفوظًا بزينة كواكب الذكر، فإذا صار كذلك بَعُد الشيطان، ومثل هذا العبد يندر في حقه الخواطر الشيطانية ولما، ويكون له خواطر النفس، ويحتاج إلى أن يتقيها ويميزها بالعلم؛ لأن منها خواطر لا يضر إمضاؤها كمطالبات النفس بحاجاتها، وحاجاتها تنقسم إلى الحقوق والحظوظ، ويتعين التمييز عند ذلك، واتهام النفس بمطالبات الحظوظ.
قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا﴾ [الحجرات: 6] أي: فتثبتوا.
(وسبب) نزول الآية: الوليد بن عقبة حيث بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني المصطلق فكذب عليهم ونسبهم إلى الكفر والعصيان حتى هم رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتالهم، ثم بعث خالدًا إليهم فسمع أذان المغرب والعشاء، ورأى ما يدل على كذب الوليد بن عقبة، فأنزل الله تعالى الآية في ذلك. فظاهر الآية وسبب نزولها ظاهر، وصار ذلك تنبيهًا من الله عباده على التثبت في الأمور.
(قال) سهل في هذه الآية: الفاسق: الكذاب، والكذب صفة النفس؛ لأنها تملي أشياء، وتسول أشياء على غير حقائقها، فتعين التثبت عند خاطرها وإلقائها، فيجعل العبد خاطر النفس نبأً يوجب التثبت، ولا يستفزه الطبع، ولا يستعجله الهوى، فقد قال بعضهم: أدنى الأدب أن تقف عند الجهل، وآخر الأدب أن تقف عند الشبهة، ومن الأدب عند الاشتباه إنزال الخاطر بمحرك النفس وخالقها وبارئها وفاطرها، وإظهار الفقر والفاقة إليه، والاعتراف بالجهل وطلب المعرفة والمعونة منه؛ فإنه إذا أتى بهذا الأدب يغاث ويعان، ويتبين له هل الخاطر لطلب حظ، أو طلب حق، فإن كان للحق أمضاه، وإن كان للحظ نفاه. وهذا التوقف إذا لم يتبين له الخاطر بظاهر العلم؛ لأن الافتقار إلى باطن العلم عند فقد الدليل في ظاهر العلم، ثم من الناس من لا يسعه في صحته إلا الوقوف على الحق دون الحظ، وإن أمضى خاطر الحظ يصير ذلك ذنب حاله، فيستغفر منه كما يستغفر من الذنوب، ومن الناس من يدخل في تناول الحظ، ويمضي خاطره بمزيد علم لديه من الله، وهو علم السعة لعبد مأذون له في السعة عالم بالإذن فيمضي خاطر الحظ، والمراد بذلك على بصيرة من أمره يحسن به ذلك ويليق به، عالم بزيادته ونقصانه، عالم بحاله محكم لعلم الحال وعلم القيام، لا يقاس على حاله ولا يدخل فيه بالتقليد؛ لأنه أمر خاص لعبد خاص، وإذا كان شأن العبد تمييز خواطر النفس في مقام تخلصه من لَمَّات الشيطان تكثر لديه خواطر الحق، وخواطر الملك، وتصير الخواطر الأربعة في حقه ثلاثًا، ويسقط خاطر الشيطان إلا نادرًا لضيق مكانه من النفس؛ لأن الشيطان يدخل بطريق اتساع النفس، واتساع النفس باتباع الهوى،والإخلاد إلى الأرض، ومن ضايق النفس على التمييز بين الحق والحظ ضاقت نفسه، وسقط محل الشيطان إلا نادرًا؛ لدخول الابتلاء عليه، ثم من المرادين المتعلقين بمقام المقربين من إذا صار قلبه سماءً مزينًا بزينة كوكب الذكر يصير قلبه سماويًّا يترقى، ويعرج بباطنه ومعناه وحقيقته في طبقات السماوات، وكلما تترقى تتضاءل النفس المطمئنة، وتبعد عنه خواطرها حتى يجاوز السماوات بعروج باطنه، كما كان ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم بظاهره وقالبه، فإذا استكمل العروج تنقطع عنه خواطر النفس؛ لتستره بأنوار القرب، وبعد النفس عنه، وعند ذلك ينقطع عنه خواطر الحق أيضًا؛ لأن الخاطر رسول، والرسالة إلى من بَعُد، وهذا قريب.
وهذا الذي وصفناه نازل ينزل به ولا يدوم، بل يعود في هبوطه إلى منازل مطالبات النفس وخواطره، فتعود إليه خواطر الحق وخواطر المَلَك، وذلك أن الخواطر تستدعي وجودًا، وما أشرنا إليه حال الفناء، ولا خاطر فيه، وخاطر الحق انتفى لمكان القرب، وخاطر النفس بعد عنه لبعد النفس، وخاطر الملك تخلف عنه كتخلف جبريل في ليلة المعراج عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث قال: لو دنوت أنملة لاحترقت.
قال محمد بن علي الترمذي: المحدَّث والمكلَّم إذا تحققا في درجتهما لم يخافا من حديث النفس.
(فكما) أن النبوة محفوظة من إلقاء الشيطان كذلك محل المكالمة والمحادثة محفوظ من إلقاء النفس وفتنتها، ومحروس بالحق والسكينة؛ لأن السكينة حجاب المكلَّم والمحدَّث مع نفسه.
(وسمعت) الشيخ أبا محمد بن عبد الله البصري -بالبصرة- يقول: الخواطر أربعة: خاطر من النفس، وخاطر من الحق، وخاطر من الشيطان، وخاطر من المَلَك، فأما الذي من النفس فيحس به من أرض القلب، والذي من الحق من فوق القلب، والذي من الملك عن يمين القلب، والذي من الشيطان عن يسار القلب، والذي ذكرناه إنما يصح لعبد أذاب نفسه بالتقوى والزهد، وتصفى وجوده، واستقام ظاهره وباطنه، فيكون قلبه كالمرآة المجلوة، لا يأتيه الشيطان من ناحية إلا ويبصره، فإذا اسود القلب،وعلاه الرين لا يبصر الشيطان.
(روي) عن أبي هريرة رضى الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا أذنب نُكِتَ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، فَإِنْ هُوَ نَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ وَتَابَ صُقِلَ، وَإِنْ عَادَ زِيدَ فيه حَتَّى تَعْلُوَ قَلْبَهُ. قال اللهُ تعالى: ﴿كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾» [المطَّففين: 14].
سمعت بعض العارفين يقول كلامًا دقيقًا كوشف به، فقال: الحديث في باطن الإنسان، والخيال الذي تراءى لباطنه وتَخَيَّلَ بين القلب، وصفاء الذكر هو من القلب وليس هو من النفس. وهذا بخلاف ما تقرر. فسألته عن ذلك، فذكر أن بين القلب والنفس منازعات ومحادثات وتألفًا وتوددًا، وكلما انطلقت النفس في شيء يهواها من القول والفعل تأثر القلب بذلك وتكدر، فإذا عاد العبد من مواطن مطالبات النفس وأقبل على ذكره ومحل مناجاته وخدمته لله تعالى أقبل القلب بالمعاتبة للنفس، وذكَّر النفس شيئًا شيئًا من فعلها وقولها كاللائم للنفس والمعاتب لها على ذلك، فإذا كان الخاطر أول الفعل ومفتتحه فمعرفته من أهم شأن العبد؛ لأن الأفعال من الخواطر تنشأ، حتى ذهب بعض العلماء إلى أن العلم المفترض طلبه بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ». هو علم الخواطر، قال: لأنها أول الفعل، وبفسادها فساد الفعل، وهذا لعمري لا يتوجه؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوجب ذلك على كل مسلم، وليس كل المسلمين عندهم من القريحة والمعرفة ما يعرفون به ذلك، ولكن يعلم الطالب أن الخواطر بمثابة البذر، فمنها ما هو بذر السعادة، ومنها ما هو بذر الشقاوة.
(وسبب) اشتباه الخواطر أحد أربعة أشياء -لا خامس لها-: إما ضعف اليقين، أو قلة العلم بمعرفة صفات النفس وأخلاقها، أو متابعة الهوى بخرم قواعد التقوى، أو محبة الدنيا جاهها ومالها وطلب الرفعة والمنزلة عند الناس، فمن عصم عن هذه الأربعة يفرق بين لمة الملك ولمة الشيطان، ومن ابتلى بها لا يعلمها ولا يطلبها، وانكشاف بعض الخواطر دون البعض لوجود بعض هذه الأربعة دون البعض، وأقوم الناس بتمييز الخواطر أقومهم بمعرفة النفس، ومعرفتها صعبة المثال، لا تكاد تتيسر إلا بعد الاستقصاء في الزهد والتقوى.
(واتفق) المشايخ على أن من كان أكله من الحرام لا يفرق بين الإلهام والوسوسة.
وقال أبو علي الدقاق: من كان قوته معلومًا لا يفرق بين الإلهام والوسوسة، وهذا لا يصح على الإطلاق إلا بقيد، وذلك أن من المعلوم ما يقسمه الحق سبحانه وتعالى لعبد بإذن يسبق إليه في الأخذ منه والتقوت به، ومثل هذا المعلوم لا يحجب عن تمييز الخواطر، إنما ذلك يقال في حق من دخل في معلوم باختيار منه وإيثار؛ لأنه ينحجب لموضع اختياره، والذي أشرنا إليه منسلخ من إرادته، فلا يحجبه المعلوم، وفرقوا بين هواجس النفس ووسوسة الشيطان. وقالوا: إن النفس تطالب وتلح، فلا تزال كذلك حتى تصل إلى مرادها، والشيطان إذا دعا إلى زلة ولم يُجَب يوسوس بأخرى؛ إذ لا غرض له في تخصيص بل مراده الإغواء كيفما أمكنه.
وتكلم الشيوخ في الخاطرين إذا كانا من الحق أيهما يتبع. قال الجنيد: الخاطر الأول؛ لأنه إذا بقي رجع صاحبه إلى التأمل، وهذا شرط العلم. وقال ابن عطاء: الثاني أقوى؛ لأنه ازداد قوة بالأول.
(وقال) أبو عبد الله بن خفيف: هما سواء؛ لأنهما من الحق، فلا مزية لأحدهما على الآخر.
قالوا: الواردات أعم من الخواطر؛ لأن الخواطر تختص بنوع خطاب أو مطالبة، والواردات تكون تارة خواطر، وتارة تكون وارد سرور ووارد حزن ووارد قبض ووارد بسط.
(وقيل:) بنور التوحيد يقبل الخاطر من الله تعالى، وبنور المعرفة يقبل من الملك، وبنور الإيمان ينهى النفس، وبنور الإسلام يرد على العدو.
ومن قصر عن درك حقائق الزهد وتطلع إلى تمييز الخواطر يزن الخاطر أولًا بميزان الشرع، فما كان من ذلك نفلًا أو فرضًا يمضيه، وما كان من ذلك محرمًا أو مكروهًا ينفيه، فإن استوى الخاطران في نظر العلم ينفذ أقربهما إلى مخالفة هوى النفس؛ فإن النفس قد يكون لها هوى كامن في أحدهما، والغالب من شأن النفس الاعوجاج والركون إلى الدون، وقد يلم الخاطر بنشاط النفس، والعبد يظن أنه بنهوض القلب، وقد يكون من القلب نفاق بسكونه إلى النفس.
يقول بعضهم: منذ عشرين سنة ما سكن قلبي إلى نفسي ساعة، فيظهر من سكون القلب إلى النفس خواطر الحق على من يكون ضعيف العلم، فلا يدرك نفاق القلب والخواطر المتولدة منه إلا العلماء الراسخون، وأكثر ما تدخل الآفات على أرباب القلوب والآخذين من اليقين واليقظة والحال بسهم من هذا القبيل؛ وذلك لقلة العلم بالنفس والقلب، وبقاء نصيب الهوى فيهم، وينبغي أن يعلم العبد قطعًا أنه مهما بقي عليه أثر من الهوى -وإن دق وقل- يبقى عليه بحسبه بقية من اشتباه الخواطر، ثم قد يغلط في تمييز الخواطر من هو قليل العلم، ولا يؤاخذ بذلك ما لم يكن عليه من الشرع مطالبة، وقد لا يسامح بذلك بعض الغالطين لما كوشفوا به من دقيق الخفاء في التمييز، ثم استعجالهم مع علمهم وقلة التثبت.
(وذكر) بعض العلماء أن لمة الملك ولمة الشيطان وُجدتا لحركة النفس والروح، وأن النفس إذا تحركت انقدح من جوهرها ظلمة، تنكت في القلب همة سوء، فينظر الشيطان إلى القلب فيقبل بالإغواء والوسوسة، وذكر أن حركة النفس تكون إما هوًى، وهو عاجل حظ النفس، أو أمنية، وهي عن الجهل الغريزي، أو دعوى حركة أو سكون، وهي آفة العقل ومحنة القلب، ولا ترد هذه الثلاثة إلا بأحد ثلاثة؛ بجهل أو غفلة أو طلب فضول، ثم يكون من هذه الثلاثة ما يجب نفيه؛ فإنها ترد بخلاف مأمور أو على وفق منهي، ومنها ما يكون نفيها فضيلة إذا وردت بمباحات.
(وذكر) أن الروح إذا تحركت انقدح من جوهرها نور ساطع، يظهر من ذلك النور في القلب همة عالية بأحد معانٍ ثلاثة؛ إما بفرض أمر به، أو بفضل ندب إليه، وإما بمباح يعود صلاحه إليه.
(وهذا) الكلام يدل على أن حركتي الروح والنفس هما الموجبتان للمتين.
(وعندي -والله أعلم-) أن اللمتين يتقدمان على حركة الروح والنفس، فحركة الروح من لمة الملك، والهمة العالية من حركة الروح، وهذا الحركة من الروح ببركة لمة الملك، وحركة النفس من لمة الشيطان، ومن حركة النفس الهمة الدنيئة، وهي من شؤم لمة الشيطان، فإذا وردت اللمتان ظهرت الحركتان، وظهر سر العطاء والابتلاء من معط كريم ومبلٍ حكيم، وقد تكون هاتان اللمتان متداركتين، وينمحي أثر أحدهما بالأخرى، والمتفطن المتيقظ ينفتح عليه بمطالعة وجود هذه الآثار في ذاته باب أنس، ويبقى أبدًا متفقدًا حاله مطالعًا آثار اللمتين.
(وذُكِرَ) خاطر خامس ،وهو خاطر العقل، متوسط بين الخواطر الأربعة، يكون من النفس والعدو؛ لوجود التمييز وإثبات الحجة على العبد ليدخل العبد في الشيء بوجود عقل؛ إذ لو فقد العقل سقط العقاب والعتاب، وقد يكون مع الملك والروح ليوقع الفعل مختارًا ويستوجب به الثواب.
(وذُكِرَ) خاطر سادس، وهو خاطر اليقين، وهو روح الإيمان ومزيد العلم، ولا يبعد أن يقال: الخاطر السادس وهو خاطر اليقين حاصله راجع إلى ما يرد من خاطر الحق.
وخاطر العقل أصله تارة من خاطر الملك، وتارة من خاطر النفس، وليس من العقل خاطر على الاستقلال؛ لأن العلق كما ذكرنا غريزة يتهيأ بها إدراك العلوم، ويتهيأ بها الانجذاب إلى دواعي النفس تارة، وإلى دواعي الملك تارة، وإلى دواعي الروح تارة، وإلى دواعي الشيطان تارة فعلى، هذا لا تزيد الخواطر على أربعة.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يذكر غير اللمتين، وهاتان اللمتان هما الأصل، والخاطران الآخران فرع عليهما؛ لأن لمة الملك إذا حركت الروح واهتزت الروح بالهمة الصالحة قربت أن تهتز بالهمة الصالحة إلى حظائر القرب، فورد عليه عند ذلك خواطر من الحق، وإذا تحقق بالقرب يتحقق بالفناء، فتثبت الخواطر الربانية عند ذلك كما ذكرناه قبل لموضع قربه، فيكون أصل خواطر الحق لمة الملك، ولمة الشيطان إذا حركت النفس هوت بجبلتها إلى مركزها من الغريزة والطبع، فظهر منها لحركتها خواطر ملائمة لغريزتها وطبيعتها وهواها، فصارت خواطر النفس نتيجة لمة الشيطان، فأصلها لمتان وينتجان أخريين، وخاطر اليقين والعقل مندرج فيهما، والله أعلم.