(الباب الثامن والثلاثون في ذكر آداب الصلاة وأسرارها)
أحسن آداب المصلي ألَّا يكون مشغول القلب بشيء قل أو كثر؛ لأن الأكياس لم يرفضوا الدنيا إلا ليقيموا الصلاة كما أمروا؛ لأن الدنيا واشتغالها لما كانت شاغلة للقلب رفضوها غيرة على محل المناجاة، ورغبة في أوطان القربات، وإذعانًا بالباطن لرب البريات؛ لأن حضور الصلاة بالظاهر إذعان الظاهر، وفراغ القلب في الصلاة عما سوى الله تعالى إذعان الباطن، فلم يروا حضور الظاهر وتخلف الباطن؛ حتى لا يختل إذعانهم فتنخرم عبوديتهم، فيجتنب أن يكون باطنه مرتهنًا بشيء ويدخل الصلاة.
(وقيل:) من فِقْه الرجل أن يبدأ بقضاء حاجته قبل الصلاة؛ ولهذا ورد: إذا حضر العِشاء والعَشاء، فقدموا العَشاء على العِشاء، ولا يصلي وهو حاقن يطالبه البول، ولا حازق يطالبه الغائط، والحزق -أيضًا- ضيق الخُلُق، ولا يصلي -أيضًا- وخفه ضيق يشغل قلبه فقد قيل: لا رأي لحازق. قيل: الذي يكون معه ضيق، وفي الجملة ليس من الأدب أن يصلي وعنده ما يغير مزاج باطنه عن الاعتدال كهذه الأشياء التي ذكرناها، والاهتمام المفرط والغصب.
(وفي الخبر): لا يدخل أحدكم في الصلاة وهو مقطب، ولا يصلين أحدكم وهو غضبان، فلا ينبغي للعبد أن يتلبس بالصلاة إلا وهو على أتم الهيئات، وأحسن لبسة المصلي سكون الأطراف وعدم الالتفات، والإطراق، ووضع اليمين على الشمال، فما أحسنها من هيئة عبد ذليل واقف بين يدي ملك عزيز! وفي رخصة الشرع دون الثلاث حركات متواليات جائز، وأرباب العزيمة يتركون الحركة في الصلاة جملة، وقد حركت يدي في الصلاة وعندي شخص من الصالحين، فلما انصرفت من الصلاة أنكر عَلَيَّ، وقال: عندنا أن العبد إذا وقف في الصلاة ينبغي أن يبقى جمادًا مجمدًا لا يتحرك منه شيء.
وقد جاء في الخبر: سبعة أشياء في الصلاة من الشيطان: الرعاف، والنعاس، والوسوسة، والتثاؤب، والحكاك، والالتفات، والعبث بالشيء من الشيطان أيضًا. وقيل: السهو، والشك.
(وقد روي) عن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال: إن الخشوع في الصلاة ألَّا يعرف المصلي مَنْ على يمينه وشماله.
(ونقل عن سفيان) أنه قال: من لم يخشع فسدت صلاته.
وروي عن معاذ بن جبل أشد من ذلك قال: من عرف من عن يمينه وشماله في الصلاة متعمدًا فلا صلاة له.
وقال بعض العلماء: من قرأ كلمة مكتوبة في حائط أو بساط في صلاته فصلاته باطلة. قال بعضهم: لأن ذلك عَدُّوهُ عملًا. وقيل في تفسير قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ﴾ [المعارج: 23]. قيل: هو سكون الأطراف والطمأنينة.
(قال) بعضهم: إذا كبرت التكبيرة الأولى فاعلم أن الله ناظر إلى شخصك، عالم بما في ضميرك، ومَثِّل في صلاتك الجنة عن يمينك، والنار عن شمالك. وإنما ذكرنا أن تمثل الجنة والنار؛ لأن القلب إذا شُغِلَ بذكر الآخرة ينقطع عنه الوسواس، فيكون هذا التمثيل تداويًا للقلب لدفع الوسوسة.
(أخبرنا) شيخنا ضياء الدين أبو النجيب السهروردي -إجازة- قال: أنبأنا عمر بن أحمد الصفار قال: أنا أبو بكر بن خلف قال: أنا أبو عبد الرحمن قال: سمعت أبا الحسين الفارسي يقول: سمعت محمد بن الحسين يقول: قال سهل: من خلا قلبه عن ذكر الآخرة تعرض لوساوس الشيطان، فأما من باشر باطنه صفوَ اليقين ونورَ المعرفة فيستغني بشاهده عن تمثيل مشاهدة.
قال أبو سعيد الخراز: إذا ركع فالأدب في ركوعه أن ينتصب، ويدنو ويتدلى في ركوعه حتى لا يبقى منه مفصل إلا وهو منتصب نحو العرش العظيم، ثم يعظم الله تعالى حتى لا يكون في قلبه شيء أعظم من الله تعالى، ويصغر في نفسه حتى يكون أقل من الهباء، وإذا رفع رأسه وحمد الله يعلم أنه سبحانه وتعالى يسمع ذلك.
(وقال أيضًا): ويكون معه في الخشية ما يكاد يذوب به.
(قال السراج:) إذا أخذ العبد في التلاوة فالأدب في ذلك أن يشاهد ويسمع قلبه كأنه يسمع من الله تعالى، أو كأنه يقرأ على الله تعالى، وقال السراج -أيضًا-: من أدبهم قبل الصلاة المراقبة ومراعاة القلب من الخواطر والعوارض، ونفي كل شيء غير الله تعالى، فإذا قاموا إلى الصلاة بحضور القلب فكأنهم قاموا من الصلاة إلى الصلاة، فيبكون مع النفس والعقل اللذين دخلوا في الصلاة بهما، فإذا خرجوا من الصلاة رجعوا إلى حالهم من حضور القلب، فكأنهم أبدًا في الصلاة، فهذا هو أدب الصلاة.
وقيل: كان بعضهم لا يتهيأ له حفظ العدد من كمال استغراقه، وكان يجلس واحد من أصحابه يعدد عليه كم ركعة صلى.
(وقيل): للصلاة أربع شعب؛ حضور القالب في المحراب، وشهود العقل عند الملك الوهاب، وخشوع القلب بلا ارتياب، وخضوع الأركان بلا ارتقاب؛ لأن عند حضور القلب رفع الحجاب، وعند شهود العقل رفع العتاب، وعند حضور النفس فتح الأبواب، وعند خضوع الأركان وجود الثواب.
فمن أتى الصلاة بلا حضور القلب فهو مصل لاهٍ، ومن أتاها بلا شهود العقل فهو مصل ساهٍ، ومن أتاها بلا خضوع النفس فهو مصل خاطئ، ومن أتاها بلا خشوع الأركان فهو مصل جافٍ، ومن أتاها كما وُصِفَ فهو مصل وافٍ.
(وقد ورد) عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا قام العبد إلى الصلاة المكتوبة مقبلًا على الله بقلبه، وسمعه وبصره انصرف من صلاته وقد خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، وإنَّ الله ليغفر بغسل الوجه خطيئة أصابها، وبغسل يديه خطيئة أصابها، وبغسل رجليه خطيئة أصابها، حتى يدخل في صلاته وليس عليه وزر».
(وذُكِرَت) السرقة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أي السرقة أقبح؟». فقالوا: الله ورسوله أعلم. فقال: «إن أقبح السرقة أن يسرق الرجل من صلاته». قالوا: كيف يسرق الرجل من صلاته؟ قال: «لا يتم ركوعها، ولا سجودها، ولا خشوعها، ولا القراءة فيها».
(وروي) عن أبي عمرو بن العلاء أنه قُدِّم للإمامة فقال: لا أصلح، فلما ألحوا عليه كبر فغُشِيَ عليه. فقدموا إمامًا آخر، فلما أفاق سئل، فقال: لما قلت: استووا هتف بي هاتف: هل استويت أنت مع الله قط؟
وقال عليه السلام: «إن العبد إذا أحسن الوضوء وصلى الصلاة لوقتها وحافظ على ركوعها وسجودها ومواقيتها قالت: حفظك الله كما حفظتني، ثم صعدت ولها نور حتى تنتهي إلى السماء، وحتى تصل إلى الله فتشفع لصاحبها، وإذا أضاعها قالت: ضيعك الله كما ضيعتني، ثم صعدت ولها ظلمة حتى تنتهي إلى أبواب السماء، فتغلق دونها، ثم تلف كما يلف الثوب الخلق، فيضرب بها وجه صاحبها».
(وقال أبو سليمان الداراني) إذا وقف العبد في الصلاة يقول الله تعالى: ارفعوا الحجب فيما بيني وبين عبدي، فإذا التفت يقول الله: أرخوها فيما بيني وبينه، وخلوا عبدي وما اختار لنفسه.
وقال أبو بكر الوراق: ربما أصلي ركعتين فأنصرف منهما، وأنا أستحي من الله حياء رجل انصرف من الزنا. قوله هذا؛ لعظيم الأدب عنده، ومعرفة كل إنسان بأدب الصلاة على قدر حظه من القرب.
(وقيل) لموسى بن جعفر: إن الناس أفسدوا عليك الصلاة بممرهم بين يديك، قال: إن الذي أصلي له أقرب إليَّ من الذي يمشي بين يدي.
(وقيل:) كان زين العابدين علي بن الحسين -رضي الله عنهما- إذا أراد أن يخرج إلى الصلاة لا يُعْرَف مِنْ تَغَيُّرِ لونه. فيقال له ذلك، فيقول: أتدرون بين يدي من أريد أن أقف؟
وروى عمار بن ياسر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يكتب للعبد من صلاته إلا ما يعقل». وقد ورد في لفظ آخر: «مِنْكُمْ مَنْ يُصَلِّي الصَّلَاةَ كَامِلَةً، وَمِنْكُمْ مَنْ يُصَلِّي النِّصْفَ، وَالثُّلُثَ، وَالرُّبُعَ، وَالْخُمْسَ، حَتَّى يبلغ الْعُشْرَ».
قال الخواص: ينبغي للرجل أن ينوي نوافله لنقصان فرائضه، فإن لم ينوها لم يحسب له منها شيء.
بلغنا أن الله لا يقبل نافلة حتى تؤدى فريضة، يقول الله تعالى: مثلكم كمثل العبد السوء بدأ بالهدية قبل قضاء الدَّيْن.
(وقال أيضًا): انقطع الخلق عن الله تعالى بخصلتين: إحداهما: أنهم طلبوا النوافل، وضيعوا الفرائض. والثانية: أنهم عملوا أعمالًا بالظواهر، ولم يأخذوا أنفسهم بالصدق فيها والنصح لها، وأبى الله تعالى أن يقبل من عامل عملاً إلا بالصدق وإصابة الحق.
وفتح العين في الصلاة أولى من تغميض العين، إلا أن يتشتت همه بتفريق النظر فيغمض العين للاستعانة على الخشوع، وإن تثاءب في الصلاة يضم شفتيه بقدر الإمكان، ولا يلزق ذقنه بصدره، ولا يزاحم في الصلاة غيره.
(قيل): ذهب المزحوم بصلاة المزاحم.
(وقيل): من ترك الصف الأول مخافة أن يضيق على أهله، فقام في الثاني أعطاه الله مثل ثواب الصف الأول من غير أن ينقص من أجورهم شيء.
(وقيل): إن إبراهيم الخليل عليه السلام كان إذا قام إلى الصلاة يُسْمَع خفقان قلبه من ميل.
(وروت) عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يُسْمَع من صدره أزيز كأزيز المرجل حتى كان يسمع في بعض سكك المدينة.
(وسئل) الجنيد: ما فريضة الصلاة؟ قال: قطع العلائق، وجمع الهم، والحضور بين يدي الله. وقال الحسن: ماذا يعز عليك من أمر دينك إذا هانت عليك صلاتك؟.
(وقيل): أوحى الله تعالى إلى بعض الأنبياء، فقال: إذا دخلت الصلاة فهب لي من قلبك الخشوع، ومن بدنك الخضوع، ومن عينك الدموع؛ فإني قريب.
(وقال) أبو الخير الأقطع: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام فقلت: يا رسول الله، أوصني. فقال: يا أبا الخير، عليك بالصلاة؛ فإني استوصيت ربي فأوصاني بالصلاة، وقال لي: إن أقرب ما أكون منك وأنت تصلي.
(وقال) ابن عباس -رضي الله عنهما-: ركعتان في تفكر خير من قيام ليلة.
(وقيل): إن محمد بن يوسف الفرغاني رأى حاتمًا الأصم واقفًا يعظ الناس، فقال له: يا حاتم، أراك تعظ الناس أفتحسن أن تصلي؟ قال: نعم، قال: كيف تصلي؟ قال: أقوم بالأمر، وأمشي بالخشية، وأدخل بالهيبة، وأكبر بالعظمة، وأقرأ بالترتيل، وأركع بالخشوع، وأسجد بالتواضع، وأقعد للتشهد بالتمام، وأسلم على السنة، وأسلمها إلى ربي، وأحفظها أيام حياتي، وأرجع باللوم على نفسي، وأخاف ألَّا تُقْبَل مني، وأرجو أن تقبل مني، وأنا بين الخوف والرجاء، وأشكر من عَلَّمني، وأعلمها من سألني، وأحمد ربي إذ هداني. فقال محمد بن يوسف: مثلك يصلح أن يكون واعظًا.
وقوله تعالى: ﴿لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى﴾ [النساء: 43]. قيل: من حب الدنيا. وقيل: من الاهتمام.
وقال عليه السلام: «من صلى ركعتين ولم يُحَدِّث نفسه بشيء من الدنيا غَفَرَ الله له ما تقدم من ذنبه». وقال: «إن الصلاة تمسكن وتواضع، وتضرع وتنادم، وترفع يديك، وتقول: اللهم اللهم، فمن لا يفعل ذلك فهي خِدَاج». أي: ناقصة.
وقد ورد أن المؤمن إذا توضأ للصلاة تباعد عنه الشيطان في أقطار الأرض خوفًا منه؛ لأنه تأهب للدخول على المَلِك، فإذا كَبَّر حُجِب عنه إبليس. قيل: يُضْرب بينه وبينه سرادق لا ينظر إليه، وواجهه الجبار بوجهه. فإذا قال: الله أكبر اطلع المَلَك في قلبه، فإذا لم يكن في قلبه أكبر من الله تعالى يقول: صدقتَ، اللهُ في قلبك كما تقول، وتشعشع من قلبه نور يلحق بملكوت العرش، ويكشف له بذلك النور ملكوت السماوات والأرض، ويكتب له حشو ذلك النور حسنات. وإن الجاهل الغافل إذا قام إلى الصلاة احتوشته الشياطين كما تحتوش الذباب على نقطة العسل، فإذا كبر اطلع الله على قلبه، فإذا كان شيء في قلبه أكبر من الله تعالى عنده يقول له: كذبتَ، ليس الله تعالى أكبر في قلبك كما تقول، فيثور من قلبه دخان يلحق بعنان السماء، فيكون حجابًا لقلبه من الملكوت، فيزداد ذلك الحجاب صلابة، ويلتقم الشيطان قلبه، فلا يزال ينفخ فيه، وينفث، ويوسوس إليه، ويزين حتى ينصرف من صلاته، ولا يعقل ما كان فيه.
وفي «الخبر»: «لولا أن الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السماء».
والقلوب الصافية التي كمل أدبها لكمال أدب قوالبها تصير سماوية، تدخل بالتكبير في السماء كما تدخل في الصلاة، والله تعالى حرس السماء من تصرف الشياطين، فالقلب السماوي لا سبيل للشيطان إليه، فتبقى هواجس نفسانية عند ذلك، لا تنقطع بالتحصن بالسماء كانقطاع تصرف الشيطان، والقلوب المرادة بالقرب تدرج بالتقريب، وتعرج في طبقات السماوات، وفي كل طبقة من أطباق السماء يتخلف شيء من ظلمة النفس، وبقدر ذلك يقل الهاجس إلى أن يتجاوز السماوات، ويقف أمام العرش، فعند ذلك يذهب بالكلية هاجس النفس بساطع نور العرش، وتندرج ظلمات النفس في نور القلب اندراج الليل في النهار، وتتأدى حينئذٍ حقوق الآداب على وجه الصواب.
(وما ذكرنا) من أدب الصلاة يسير من كثير. وشأن الصلاة أكبر من وصفنا، وأكمل من ذكرنا، وقد غلط أقوام وظنوا أن المقصود من الصلاة ذكر الله تعالى، وإذا حصل الذكر فأي حاجة إلى الصلاة، وسلكوا طرقًا من الضلال، وركنوا إلى أباطيل الخيال، ومَحَوُا الرسوم والأحكام، ورفضوا الحلال والحرام.
وقوم آخرون سلكوا في ذلك طريقًا أدتهم إلى نقصان الحال، حيث سلموا من الضلال؛ لأنهم اعترفوا بالفرائض، وأنكروا فضل النوافل، واغتروا بيسير روح الحال وأهملوا فضل الأعمال، ولم يعلموا أن لله في كل هيئة من الهيئات، وكل حركة من الحركات أسرارًا وحكمًا لا توجد في شيء من الأذكار، فالأحوال والأعمال روح وجُسْمَانٌ، وما دام العبد في دار الدنيا إعراضه عن الأعمال عين الطغيان، فالأعمال تزكو بالأحوال، والأحوال تنمو بالأعمال.