(الباب الستون في ذكر إشارات المشايخ في المقامات على الترتيب)
(قولهم في التوبة):
قال رويم: معنى التوبة أن يتوب من التوبة. قيل: معناه قول رابعة: أستغفر الله العظيم من قلة صدقي في قولي: أستغفر الله.
(وسئل) الحسن المغازلي عن التوبة، فقال: تسألني عن توبة الإنابة أو عن توبة الاستجابة؟ فقال السائل: ما توبة الإنابة؟ فقال: أن تخاف من الله عز وجل من أجل قدرته عليك. فما توبة الاستجابة؟ قال: أن تستحي من الله لقربه منك.
وهذا الذي ذكره من توبة الاستجابة إذا تحقق العبد بها ربما تاب في صلاته من كل خاطر يلم به سوى الله تعالى، ويستغفر الله منه، وهذه توبة الاستجابة لازمة لبواطن أهل القرب كما قيل:
....................................... |
* | وجودك ذنب لا يقاس به ذنب |
قال ذو النون: توبة العوام من الذنوب، وتوبة الخواص من الغفلة، وتوبة الأنبياء من رؤية عجزهم عن بلوغ ما ناله غيرهم.
(سئل) أبو محمد سهل عن الرجل يتوب من الشيء ويتركه، ثم يخطر ذلك الشيء بقلبه أو يراه أو يسمع به فيجد حلاوته. فقال: الحلاوة طبع البشرية ولا بد من الطبع وليس له حيلة إلا أن يرفع قلبه إلى مولاه بالشكوى، وينكره بقلبه، ويلزم نفسه الإنكار، ولا يفارقه، ويدعو الله أن ينسيه ذلك، ويشغله بغيره من ذكره وطاعته، قال: وإن غفل عن الإنكار طرفة عين أخاف عليه ألَّا يسلم، وتعمل الحلاوة في قلبه، ولكن مع وجدان الحلاوة يلزم قلبه الإنكار ويحزن؛ فإنه لا يضره.
(وهذا) الذي قاله سهل كاف بالغ لكل طالب صادق يريد صحة توبته.
(والعارف) القوي الحال يتمكن من إزالة الحلاوة عن باطنه، ويسهل عليه ذلك، وأسباب سهولة ذلك متنوعة للعارف، ومن تمكن من قلبه حلاوة حب الله الخاص عن صفاء مشاهدة وصرف يقين فأي حلاوة تبقى في قلبه، وإنما حلاوة الهوى لعدم حلاوة حب الله.
(وسئل) السوسي عن التوبة فقال: التوبة من كل شيء ذمه العلم إلى ما مدحه العلم، وهذا وصف يعم الظاهر والباطن لمن كوشف بصريح العلم؛ لأنه لا بقاء للجهل مع العلم كما لا بقاء لليل مع طلوع الشمس، وهذا يستوعب جميع أقسام التوبة بالوصف الخاص والعام، وهذا العلم يكون علم الظاهر والباطن بتطهير الظاهر والباطن بأخص أوصاف التوبة وأعم أوصافها.
(وقال) أبو الحسن النوري: التوبة أن تتوب عن كل شيء سوى الله تعالى.
(قولهم) في الورع:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ملاك دينكم الورع».
(أخبرنا) أبو زرعة -إجازة- عن أبي بكر بن خلف عن أبي عبد الرحمن السلمي -إجازة- قال: أنا أبو سعيد الخلال قال: حدثني ابن قتيبة قال: حدثنا عمر بن عثمان قال: حدثنا بقية عن أبي بكر بن أبي مريم عن حبيب بن عبيد عن أبي الدرداء رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ على نهر فلما فرغ من وضوئه أفرغ فضله في النهر، وقال: «يبلغه الله عز وجل قوما ينفعهم».
(قال) عمر بن الخطاب: لا ينبغي لمن أخذ بالتقوى ووزر بالورع أن يذل لصاحب دنيا. قال معروف الكرخي: احفظ لسانك من المدح كما تحفظه من الذم.
(نقل) عن الحرث بن أسد المحاسبي أنه كان على طرف إصبعه الوسطى عرق إذا مد يده إلى طعام فيه شبهة ضرب عليه ذلك العرق.
(سئل الشبلي) عن الورع، فقال: الورع: أن تتورع أن يتشتت قلبك من الله طرفة عين.
(وقال) أبو سليمان الداراني: الورع: أول الزهد كما أن القناعة طرف من الرضا.
(وقال) يحيى بن معاذ: الورع: الوقوف على حد العلم من غير تأويل.
(سئل) الخواص عن الورع فقال: ألَّا يتكلم العبد إلا بالحق غضب أو رضي، وأن يكون اهتمامه بما يرضي الله تعالى.
(أخبرنا) أبو زرعة -إجازة- عن أبي بكر بن خلف -إجازة- عن السلمي قال: سمعت الحسن بن أحمد بن جعفر يقول: سمعت محمد بن داود الدينوري يقول: سمعت ابن الجلاء يقول: أعرف من أقام بمكة ثلاثين سنة ولم يشرب من ماء زمزم إلا من ماء استقاه بركوته ورشائه ،ولم يتناول من طعام جلب من مصر شيئًا.
(وقال) الخواص: الورع دليل الخوف، والخوف دليل المعرفة، والمعرفة دليل القربة.
(قولهم في الزهد):
قال الجنيد: الزهد: خلو الأيدي من الأملاك، والقلوب من التتبع. (وسئل) الشبلي عن الزهد، فقال: لا زهد في الحقيقة؛ لأنه إما أن يزهد فيما ليس له فليس ذلك بزهد، أو يزهد فيما هو له، فكيف زهد فيه وهو معه وعنده؟ فليس إلا ظَلْفُ النفس وبذل ومواساة. يشير إلى الأقسام التي سبقت بها الأقلام، وهذا لو اطرد هدم قاعدة الاجتهاد والكسب، ولكن مقصود الشبلي أن يقلل الزهد في عين المعتد بالزهد؛ لئلا يغتر به.
(قال) رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِذَا رَأَيْتُمُ الرَّجُلَ قَدْ أوتي زُهْدًا فِي الدُّنْيَا ومنطقًا فاقربوا مِنْهُ؛ فَإِنَّهُ يُلَقَّى الْحِكْمَةَ». وقد سمى الله عز وجل الزاهدين علماء في قصة قارون، فقال تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللهِ خَيْرٌ﴾ [القصص: 80]. قيل: هم الزاهدون.
(وقال) سهل بن عبد الله: للعقل ألف اسم، ولكل اسم منه ألف اسم، وأول كل اسم منه ترك الدنيا.
(وقيل) في قوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا﴾ [الأنبياء: 73]. قيل: عن الدنيا.
(وفي الخبر:) «العلماء أمناء الرسل ما لم يدخلوا في الدنيا، فإذا دخلوا في الدنيا فاحذروهم على دينكم».
(وجاء) في الأثر: «لا تزال لا إله إلا الله تدفع عن العباد سخط الله ما لم يبالوا ما نقص من دنياهم، فإذا فعلوا ذلك قالوا: لا إله إلا الله، قال الله تعالى: كذبتم لستم بها صادقين».
(وقال) سهل: أعمال البر كلها في موازين الزهاد، وثواب زهدهم زيادة لهم.
(وقيل:) من سمي باسم الزهد في الدنيا فقد سمي بألف اسم محمود، ومن سمي باسم الرغبة في الدنيا فقد سمي بألف اسم مذموم.
(قال) السري: الزهد: ترك حظوظ النفس من جميع ما في الدنيا، ويجمع هذا الحظوظ المالية والجاهية وحب المنزلة عند الناس وحب المحمدة والثناء.
(وسئل) الشبلي عن الزهد فقال: الزهد: غفلة؛ لأن الدنيا لا شيء، والزهد في لا شيء غفلة.
(وقال) بعضهم: لما رأوا حقارة الدنيا زهدوا في زهدهم في الدنيا لهوانها عندهم.
(وعندي) أن الزهد في الزهد غير هذا، وإنما الزهد في الزهد بالخروج من الاختيار في الزهد؛ لأن الزهد اختار الزهد وأراده، وإرادته تستند إلى علمه، وعلمه قاصر، فإذا أقيم في مقام ترك الإرادة، وانسلخ من اختياره كاشفه الله تعالى بمراده، فيترك الدنيا بمراد الحق لا بمراد نفسه، فيكون زهده بالله تعالى حينئذٍ، أو يعلم أن مراد الله منه التلبس بشيء من الدنيا، يدخل بالله في شيء من الدنيا لا ينقص عليه زهده، فما
فيكون دخوله في الشيء من الدنيا بالله وبإذن منه زهدًا في الزهد، والزاهد في الزهد استوى عنده وجود الدنيا وعدمها، إن تركها تركها بالله، وإن أخذها أخذها بالله، وهذا هو الزهد في الزهد، وقد رأينا من العارفين من أقيم في هذا المقام.
(وفوق) هذا مقام آخر في الزهد، وهو لمن يرد الحق إليه اختياره لسعة علمه وطهارة نفسه في مقام البقاء، فيزهد زهدًا ثالثًا، ويترك الدنيا بعد أن مكن من ناصيتها وأعيدت عليه موهوبة، ويكون تركه الدنيا في هذا المقام باختياره، واختياره من اختيار الحق، فقد يختار تركها حينًا تأسيًا بالأنبياء والصالحين، ويرى أن أخذها في مقام الزهد رفق أدخل عليه لموضع ضعفه عن درك شأو الأقوياء من الأنبياء والصديقين، فيترك الرفق من الحق بالحق للحق، وقد يتناوله باختياره رفقًا بالنفس بتدبير يسوسه فيه صريح العلم.
(وهذا) مقام التصرف لأقوياء العارفين، زهدوا ثالثًا بالله، كما رغبوا ثانيًا بالله، كما زهدوا أولًا لله.
(قولهم في الصبر):
قال سهل: الصبر: انتظار الفرج من الله، وهو أفضل الخدمة وأعلاها. وقال بعضهم: الصبر: أن تصبر في الصبر؛ أي: لا تطالع فيه الفرج.
(قال) الله تعالى: ﴿وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ [البقرة: 177].
(وقيل:) لكل شيء جوهر، وجوهر الإنسان العقل، وجوهر العقل الصبر، فالصبر عرك النفس، وبالعرك تلين، والصبر جارٍ في الصابر مجرى الأنفاس؛ لأنه يحتاج إلى الصبر عن كل منهي ومكروه ومذموم ظاهرًا وباطنًا، والعلم يدل، والصبر يقبل، ولا تنفع دلالة العلم بغير قبول الصبر، ومن كان العلم سائسه في الظاهر والباطن لا يتم ذلك له إلا إذا كان الصبر مستقره ومسكنه، والعلم والصبر متلازمان كالروح والجسد، لا يستقل أحدهما بدون الآخر، ومصدرهما الغريزة العقلية، وهما متقاربان؛ لاتحاد مصدرهما، وبالصبر يتحامل على النفس، وبالعلم يترقى الروح، وهما البرزخ والفرقان بين الروح والنفس، ليستقر كل واحد منهما في مستقره، وفي ذلك صريح العدل وصحة الاعتدال، وبانفصال أحدهما عن الآخر -أعني العلم والصبر- ميل أحدهما على الآخر -أعني النفس والروح- وبيان ذلك يدق، وناهيك بشرف الصبر قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [الزُّمر: 10]. كل أجير أجره بحساب، وأجر الصابرين بغير حساب.
(وقال) الله تعالى لنبيه: ﴿وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللهِ﴾ [النحل: 127]. أضاف الصبر إلى نفسه لشرف مكانه وتكمل النعمة به.
قيل: وقف رجل على الشبلي فقال: أي صبر أشد على الصابرين؟ فقال: الصبر في الله؟ فقال: لا. فقال: الصبر لله؟ فقال: لا. فقال: الصبر مع الله؟ فقال: لا. فغضب الشبلي، وقال: ويحك أي شيء هو؟! فقال الرجل: الصبر عن الله، قال: فصرخ الشبلي صرخة كاد أن تتلف روحه.
(وعندي) في معنى الصبر عن الله وجه، ولكونه من أشد الصبر على الصابرين وجه، وذاك أن الصبر عن الله يكون في أخص مقدمات المشاهدة، يرجع العبد عن الله استحياءً وإجلالًا، وتنطبق بصيرته خجلًا وذوبانًا، ويتغيب في مفاوز استكانته وتخفيه؛ لإحساسه بعظيم أمر التجلي، وهذا من أشد الصبر؛ لأنه يود استدامة هذه الحال تأدية لحق الجلال، والروح تود أن تكتحل بصيرتها باستلماع نور الجمال، وكما أن النفس منازعة لعموم حال الصبر فالروح في هذا الصبر منازعة، فاشتد الصبر عن الله تعالى لذلك.
(وقال) أبو الحسن بن سالم: هم ثلاثة: متصبر وصابر وصبار. فالمتصبر: من صبر في الله، فمرة يصبر ومرة يجزع. والصابر: من يصبر في الله ولله، ولا يجزع، ولكن يتوقع منه الشكوى، وقد يمكن منه الجزع. وأما الصبار: فذاك الذي صبره في الله ولله وبالله، فهذا لو وقع عليه جميع البلايا لا يجزع ولا يتغير من جهة الوجود والحقيقة لا من جهة الرسم والخلقة، وإشارته في هذا ظهور حكم العلم فيه مع ظهور صفة الطبيعة.
(وكان) الشبلي يتمثل بهذين البيتين:
إن صوت المحب من ألم الشو |
* | ق وخوف الفراق يورث ضرّا |
صابر الصبر فاستغاث به الصبر |
* | فصاح المحب للصبر: صبرا |
(قال) جعفر الصادق -رحمه الله-: أمر الله تعالى أنبياءه بالصبر، وجعل الحظ الأعلى للرسول صلى الله عليه وسلم؛ حيث جعل صبره بالله لا بنفسه فقال: ﴿وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللهِ﴾ [النحل: 127].
(وسئل) السري عن الصبر فتكلم فيه، فدب على رجله عقرب فجعل يضربه بإبرته، فقيل له: لم لا تدفعه؟ قال: أستحيي من الله تعالى أن أتكلم في حال، ثم أخالف ما أتكلم فيه.
(أخبرنا) أبو زرعة -إجازة- عن أبي بكر بن خلف -إجازة- عن أبي عبد الرحمن قال: سمعت محمد بن خالد يقول: سمعت الفرغاني يقول: سمعت الجنيد -رحمه الله- يقول: إن الله تعالى أكرم المؤمنين بالإيمان، وأكرم الإيمان بالعقل، وأكرم العقل بالصبر، فالإيمان زين المؤمن، والعقل زين الإيمان، والصبر زين العقل. وأنشد عن إبراهيم الخواص -رحمه الله-:
صبرت على بعض الأذى خوف كله |
* | ودافعت عن نفسي لنفسي فعزت |
وجرعتها المكروه حتى تدربت |
* | ولو لم أجرعها إذن لاشمأزت |
ألا رب ذل ساق للنفس عزة |
* | ويا رب نفس بالتذلل عزت |
إذا ما مددت الكف ألتمس الغنى |
* | إلى غير من قال اسألوني فشلت |
سأصبر جهدي إن في الصبر عزة |
* | وأرضى بدنياي وإن هي قلت |
قال عمر بن عبد العزيز -رحمه الله-: ما أنعم الله على عبد من نعمة ثم انتزعها فعاضه مما انتزع منه الصبر إلا كان ما عاضه خيرًا مما انتزعه منه. وأنشد لسمنون:
تجرعت من حاليه نعمى وأبؤسا |
* | زمانا إذا أجري عز إليه احتسى |
فكم غمرة قد جرعتني كؤسها |
* | فجرعتها من بحر صبري أكؤسا |
تدرعت صبري والتحفت صروفه |
* | وقلت لنفسي: الصبر أو فاهلكي أسى |
خطوب لو أن الشم زاحمن خطبها |
* | لساخت ولم تدرك لها الكف ملمسا |
(قولهم في الفقر):
قال ابن الجلاء: الفقر ألَّا يكون لك، فإذا كان لك لا يكون لك حتى تؤثر.
(وقال) الكتاني: إذا صح الافتقار إلى الله تعالى صح الغنى بالله تعالى؛ لأنهما حالان لا يتم أحدهما إلا بالآخر.
(وقال) النوري: نعت الفقراء السكون عند العدم، والبذل عند الوجود. وقال غيره: والاضطراب عند الموجود. وقال الدراج: فتشت كنف أستاذي أريد مكحلة فوجدت فيها قطعة فتحيرت، فلما جاء قلت له: إني وجدت في كنفك هذه القطعة، قال: قد رأيتها ردها، ثم قال: خذها واشتر بها شيئًا، فقلت: ما كان أمر هذه القطعة بحق معبودك؟ فقال: ما رزقني الله تعالى من الدنيا صفراء ولا بيضاء غيرها، فأردت أن أوصي أن تشد في كفني فأردها إلى الله.
(وقال) إبراهيم الخواص: الفقر: رداء الشرف، ولباس المرسلين، وجلباب الصالحين.
(وسئل) سهل بن عبد الله عن الفقير الصادق. فقال: لا يسأل، ولا يرد، ولا يحبس.
(وقال) أبو علي الروذباري -رحمه الله-: سألني الزقاق فقال: يا أبا علي: لم ترك الفقراء أخذ البلغة في وقت الحاجة؟ قال: قلت: لأنهم مستغنون بالمعطي عن العطايا، قال: نعم، ولكن وقع لي شيء آخر، فقلت: هات أفدني ما وقع لك؟ قال: لأنهم قوم لا ينفعهم الوجود؛ إذ لله فاقتهم، ولا تضرهم الفاقة؛ إذ لله وجودهم. قال بعضهم: الفقر: وقوف الحاجة على القلب، ومحوها عما سوى الرب. وقال المسوحي: الفقير الذي لا تغنيه النعم، ولا تفقره المحن.
(وقال) يحيى بن معاذ: حقيقة الفقر ألَّا يستغني إلا بالله، ورسمه عدم الأسباب كلها. وقال أبو بكر الطوسي: بقيت مدة أسأل عن معنى اختيار أصحابنا لهذا الفقر على سائر الأشياء، فلم يجبني أحد بجواب يقنعني، حتى سألت نصر بن الحمامي فقال لي: لأنه أول منزل من منازل التوحيد، فقنعت بذلك.
(وسئل) ابن الجلاء عن الفقر، فسكت حتى صلى، ثم ذهب ورجع، ثم قال: إني لم أسكت إلا لدرهم كان عندي، فذهبت فأخرجته، واستحيت من الله تعالى أن تكلم في الفقر وعندي ذلك، ثم جلس وتكلم.
(قال) أبو بكر بن طاهر: من حكم الفقير ألَّا يكون له رغبة، فإن كان ولا بد لا تجاوز رغبته كفايته.
(قال) فارس: قلت لبعض الفقراء مرة وعليه أثر الجوع والضر: لم لا تسأل فيطعموك؟ فقال: إني أخاف أن أسألهم فيمنعوني فلا يفلحون. وأنشد لبعضهم:
قالوا: غدًا العيد، ماذا أنت لابسه؟ |
* | فقلت: خلعة ساق عبده الجرعا |
فقر وصبر هما ثوبان تحتهما |
* | قلب يرى ربه الأعياد والجمعا |
أحرى الملابس أن تلقى الحبيب به |
* | يوم التزاور في الثوب الذي خلعا |
الدهر لي ما تم إن غبت يا أملي |
* | والعيد ما دمت لي مرأًى ومستمعا |
(قولهم في الشكر):
قال بعضهم: الشكر: هو الغيبة عن النعمة برؤية المنعم. (وقال) يحيى بن معاذ الرازي: لست بشاكر ما دمت تشكر، وغاية الشكر التحير، وذلك أن الشكر نعمة من الله يجب الشكر عليها.
وفي أخبار داود عليه السلام: إلهي كيف أشكرك وأنا لا أستطيع أن أشكرك إلا بنعمة ثانية من نعمك؟ فأوحى الله إليه: إذا عرفت هذا فقد شكرتني.
ومعنى الشكر في اللغة: هو الكشف والإظهار، يقال: شكر وكشر إذا كشف عن ثغره وأظهره، فنشر النعم وذكرها وتعدادها باللسان من الشكر، وباطن الشكر أن تستعين بالنعم على الطاعة، ولا تستعين بها على المعصية، فهو شكر النعمة، وسمعت شيخنا رحمه الله ينشد عن بعضهم:
أوليتني نعمًا أبوح بشكرها |
* | وكفيتني كل الأمور بأسرها |
فلأشكرنك ما حييت وإن أمت |
* | فلتشكرنك أعظمي في قبرها |
(قال) رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أول من يدعى إلى الجنة يوم القيامة الذين يحمدون الله في السراء والضراء».
(وقال) رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من ابتلي فصبر، وأعطي فشكر، وظُلِمَ فغفر، وظَلَم فاستغفر». قيل: فما باله؟ قال: «أولئك لهم الأمن وهم مهتدون».
(قال) الجنيد: فرض الشكر الاعتراف بالنعم بالقلب واللسان.
(وفي) الحديث: «أَفْضَلُ الذِّكْرِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَفْضَلُ الدُّعَاءِ الْحَمْدُ لِلَّهِ».
(وقال) بعضهم: في قوله تعالى: ﴿وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً﴾ [لقمان: 20]، قال: الظاهرة: العوافي والغنى، والباطنة: البلاوي والفقر، فإن هذه نعم أخروية لما يستوجب بها من الجزاء.
(وحقيقة) الشكر أن يرى جميع المقضي له به نعمًا غير ما يضره في دينه؛ لأن الله تعالى لا يقضي للعبد المؤمن شيئًا إلا وهو نعمة في حقه، فإما عاجلة يعرفها ويفهمها، وإما آجلة بما يقضي له من المكاره، فإما أن تكون درجة له أو تمحيصًا أو تكفيرًا، فإذا علم أن مولاه أنصح له من نفسه وأعلم بمصالحه، وأن كل ما منه نعم فقد شكر.
(قولهم في الخوف):
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رأس الحكمة مخافة الله». (وروي) عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: «كان داود النبي — يعوده الناس، يظنون أن به مرضًا، وما به مرض إلا خوف الله تعالى والحياء منه».
(قال) أبو عمر الدمشقي: الخائف من يخاف من نفسه أكثر مما يخاف من الشيطان.
(وقال) بعضهم: ليس الخائف من يبكي ويمسح عينيه، ولكن الخائف التارك ما يخاف أن يعذب عليه. (وقيل): الخائف الذي لا يخاف غير الله.، قيل: أي لا يخاف لنفسه، إنما يخاف إجلالًا له، والخوف للنفس خوف العقوبة. (وقال) سهل: الخوف ذكر والرجاء أنثى؛ أي: منهما تتولد حقائق الإيمان.
(قال) الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ﴾ [النساء: 131]. (قيل): هذه الآية قطب القرآن؛ لأن مدار الأمر كله على هذا.
(وقيل:) إن الله تعالى جمع للخائفين ما فرقه على المؤمنين، وهو الهدى والرحمة والعلم والرضوان. فقال تعالى: ﴿هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ﴾ [الأعراف: 154]. وقال: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ [فاطر: 28]. وقال: ﴿رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ﴾ [البيِّنة: 8]، (وقال) سهل: كمال الإيمان بالعلم، وكمال العلم بالخوف.
(وقال) أيضًا: العلم كسب الإيمان، والخوف كسب المعرفة.
(وقال) ذو النون: لا يسقى المحب كأس المحبة إلا من بعد أن ينضج الخوف قلبه.
(وقال) فضيل بن عياض: إذا قيل لك: تخاف الله؟ اسكت؛ فإنك إن قلت: لا، كفرت، وإن قلت: نعم، كذبت، فليس وصفك وصف من يخاف.
(قولهم في الرجاء)
(قال) رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يَقُولُ اللهُ عز وجل: أَخْرِجُوا من النار مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ، ثم يقول: وعزتي وجلالي، لا أجعل من آمن بي في ساعة من ليل أو نهار كمن لم يؤمن بي».
(قيل:) جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: من يلي حساب الخلق؟ فقال: «الله تبارك وتعالى»، قال: هو بنفسه؟ قال: «نعم». فتبسم الأعرابي فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «مما ضحكت يا أعرابي؟». فقال: إن الكريم إذا قدر عفا، وإذا حاسب سامح.
(وقال) شاه الكرماني: علامة الرجاء حسن الطاعة.
(وقيل:) الرجاء رؤية الجلال بعين الجمال.
(وقيل:) قرب القلب من ملاطفة الرب.
قال أبو علي الروذباري: الخوف والرجاء كجناحي الطائر، إذا استويا استوى الطائر، وتم في طيرانه.
(قال) أبو عبد الله بن خفيف: الرجاء ارتياح القلوب لرؤية كرم المرجو.
(قال) مطرف: لو وزن خوف المؤمن ورجاؤه لاعتدلا. والخوف والرجاء للإيمان كالجناحين، ولا يكون خائفًا إلا وهو راجٍ، ولا راجيًا إلا وهو خائف؛ لأن موجب الخوف الإيمان، وبالإيمان رجاء، وموجب الرجاء الإيمان، ومن الإيمان خوف. ولهذا المعنى روي عن لقمان أنه قال لابنه: خف الله تعالى خوفًا لا تأمن فيه مكره، وارجه أشد من خوفك، قال: فكيف أستطيع ذلك وإنما لي قلب واحد؟ قال: أما علمت أن المؤمن لذو قلبين يخاف بأحدهما ويرجو بالآخر. وهذا لأنهما من حكم الإيمان.
(قولهم في التوكل):
قال السري: التوكل: الانخلاع من الحول والقوة.
(وقال) الجنيد: التوكل: أن تكون لله كما لم تكن، فيكون الله لك كما لم يزل.
(وقال) سهل: كل المقامات لها وجه وقفا غير التوكل فإنه وجه بلا قفا؛ (قال) بعضهم: يريد توكل العناية لا توكل الكفاية، والله تعالى جعل التوكل مقرونًا بالإيمان، فقال: ﴿وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [المائدة: 23]. وقال: ﴿وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ [آل عمران: 122]. وقال لنبيه: ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ﴾ [الفرقان: 58].
(وقال) ذو النون: التوكل: ترك تدبير النفس، والانخلاع من الحول والقوة.
(وقال) أبو بكر الدقاق: التوكل: رد العيش إلى يوم واحد، وإسقاط هم غد.
(وقال) أبو بكر الواسطي: أصل التوكل صدق الفاقة، والافتقار، وألَّا يفارق التوكل في أمانيه، ولا يلتفت بسره إلى توكله لحظة في عمره.
(وقال) بعضهم: من أراد أن يقوم بحق التوكل فليحفر لنفسه قبرًا يدفنها فيه، وينس الدنيا وأهلها؛ لأن حقيقة التوكل لا يقوم له أحد من الخلق على كماله.
(وقال) سهل: أول مقامات التوكل أن يكون العبد بين يدي الله تعالى كالميت بين يدي الغاسل يقلبه كيف أراد ،ولا يكون له حركة ولا تدبير.
(وقال) حمدون القصار: التوكل: هو الاعتصام بالله. (وقال) سهل أيضًا: العلم كله باب من التعبد، والتعبد كله باب من الورع، والورع كله باب من الزهد، والزهد كله باب من التوكل.
(وقال) التقوى واليقين مثل كفتي الميزان، والتوكل لسانه، به تعرف الزيادة والنقصان. ويقع لي أن التوكل على قدر العلم بالوكيل، فكل من كان أتم معرفة كان أتم توكلًا، ومن كمل توكله غاب في رؤية الوكيل عن رؤية توكله، ثم إن قوة المعرفة تفيد صرف العلم بالعدل في القسمة، وإن الأقسام نصبت بإزاء المقسوم لهم عدلًا وموازنة؛ فإن النظر إلى غير الله لوجود الجهل في النفس، وكل ما أحس بشيء يقدح في توكله يراه من منبع النفس، فنقصان التوكل يظهر بظهور النفس، وكماله يُثْبِت بغية النفس، وليس للأقوياء اعتداد بتصحيح توكلهم، وإنما شغلهم في تغييب النفس بتقوية مواد القلب، فإذا غابت النفس انحسمت مادة الجهل، فصح التوكل والعبد غير ناظر إليه، وكلما تحرك من النفس بقية يرد على ضميرهم سر قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ﴾ [العنكبوت: 42]. فيغلب وجود الحق الأعيان والأكوان، ويرى الكون بالله من غير استقلال الكون في نفسه، ويصير التوكل حينئذٍ اضطرارًا، ولا يقدح في توكل مثل هذا المتوكل ما يقدح في توكل الضعفاء في التوكل من وجود الأسباب والوسائط؛ لأنه يرى الأسباب مواتًا لا حياة لها إلا بالتوكل، وهذا توكل خواص أهل المعرفة.
(قولهم في الرضا):
قال الحرث: الرضا: سكون القلب تحت جريان الحكم. وقال ذو النون: الرضا: سرور القلب بمر القضاء.
(وقال) سفيان عند رابعة: اللهم ارض عنا. فقالت له: أما تستحي أن تطلب رضا من لست عنه براض؟ فسألها بعض الحاضرين: متى يكون العبد راضيًا عن الله تعالى؟ فقالت: إذا كان سروره بالمصيبة كسروره بالنعمة.
(وقال) سهل: إذا اتصل الرضا بالرضوان اتصلت الطمأنينة، فطوبى لهم وحسن مآب.
(وقال) رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاللهِ رَبًّا».
(وقال) عليه السلام: «إن الله تعالى بحكمته جعل الروح والفرح في الرضا واليقين، وجعل الهم والحزن في الشك والسخط».
(وقال) الجنيد: الرضا: هو صحة العلم الواصل إلى القلوب، فإذا باشر القلب حقيقة العلم أداه إلى الرضا، وليس الرضا والمحبة كالخوف والرجاء؛ فإنهما حالان لا يفارقان العبد في الدنيا والآخرة؛ لأنه في الجنة لا يستغني عن الرضا والمحبة.
(وقال) ابن عطاء: الرضا: سكون القلب إلى قديم اختيار الله للعبد؛ لأنه اختار له الأفضل، فيرضى له، وهو ترك السخط.
(وقال) أبو تراب: ليس ينال الرضا مِنَ الله مَنْ للدنيا في قلبه مقدار.
قال السري: خمس من أخلاق المقربين: الرضا عن الله فيما تحب النفس وتكره، والحب له بالتحبب إليه، والحياء من الله، والأنس به، والوحشة مما سواه.
(وقال) الفضيل: الراضي لا يتمنى فوق منزلته شيئًا. وقال ابن شمعون: الرضا بالحق، والرضا له، والرضا عنه، فالرضا به مدبرًا ومختارًا، والرضا عنه قاسمًا ومعطيًا، والرضا له إلهًا وربًّا.
(سئل) أبو سعيد: هل يجوز أن يكون العبد راضيًا ساخطًا؟ قال: نعم، يجوز أن يكون راضيًا عن ربه، ساخطًا على نفسه، وعلى كل قاطع يقطعه عن الله.
وقيل للحسن بن علي بن أبي طالب -رضي الله عنهما-: إن أبا ذر يقول: الفقر أحب إليَّ من الغنى والسقم أحب إلي من الصحة، قال: رحم الله أبا ذر! أما أنا فأقول: من اتكل على حسن اختيار الله له لم يتمن أنه في غير الحالة التي اختار الله له.
وقال علي رضى الله عنه: من جلس على بساط الرضا لم ينله من الله مكروه أبدًا، ومن جلس على بساط السؤال لم يرض عن الله في كل حال.
(وقال) يحيى: يرجع الأمر كله إلى هذين الأصلين، فعلٌ منه بك، وفعلٌ منك له، فترضى بما عمل، وتخلص فيما تعمل.
(وقال) بعضهم: الراضي من لم يندم على فائت من الدنيا، ولم يتأسف عليها.
(وقيل) ليحيى بن معاذ: متى يبلغ العبد إلى مقام الرضا؟ قال: إذا أقام نفسه على أربعة أصول فيما يعامل به، يقول: إن أعطيتني قبلت، وإن منعتني رضيت، وإن تركتني عبدت، وإن دعوتني أجبت.
وقال الشبلي -رحمه الله- بين يدي الجنيد: لا حول ولا قوة إلا بالله. قال الجنيد: قولك ذا ضيقُ صدر. فقال: صدقت، قال: فضيق الصدر ترك الرضا بالقضاء، وهذا إنما قاله الجنيد -رحمه الله- تنبيهًا منه على أصل الرضا، وذلك أن الرضا يحصل لانشراح القلب وانفساحه، وانشراح القلب من نور اليقين.
قال الله تعالى: ﴿أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ﴾ [الزُّمر: 22].
فإذا تمكن النور من الباطن اتسع الصدر، وانفتحت عين البصيرة، وعاين حسن تدبير الله تعالى، فينتزع السخط والتضجر؛ لأن اتساع القدرة يتضمن حلاوة الحب وفعل المحبوب بموقع الرضا عن المحب الصادق؛ لأن المحب يرى أن الفعل من المحبوب مراده واختياره، فيفنى في لذة رؤية اختيار المحبوب عن اختيار نفسه، كما قيل: وكل ما يفعل المحبوب محبوب.