(الباب الحادي والخمسون في آداب المريد مع الشيخ)
أدب المريدين مع الشيوخ عند الصوفية من مهام الآداب، وللقوم في ذلك اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
وقد قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [الحجرات: 1].
روي عن عبد الله بن الزبير قال: قدم وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم من بني تميم، فقال أبو بكر: أمر القعقاع بن معبد. وقال عمر: بل أمر الأقرع بن حابس. فقال أبو بكر: ما أردت إلا خلافي. وقال عمر: ما أردت خلافك. فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما. فأنزل الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [الحجرات: 1]. الآية.
قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: لا تقدموا: لا تتكلموا بين يدي كلامه.
وقال جابر: كان ناس يضحون قبل رسول الله، فنهوا عن تقديم الأضحية على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقيل: كان قوم يقولون: لو أنزل في كذا وكذا. فكره الله ذلك.
وقالت عائشة -رضي الله عنها-: أي: لا تصوموا قبل أن يصوم نبيكم. وقال الكلبي: لا تسبقوا رسول الله بقول ولا فعل حتى يكون هو الذي يأمركم به. وهكذا أدب المريد مع الشيخ أن يكون مسلوب الاختيار، لا يتصرف في نفسه وماله إلا بمراجعة الشيخ وأمره. وقد استوفينا هذا المعنى في باب المشيخة.
وقيل: لا تقدموا: لا تمشوا بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. وروى أبو الدرداء قال: كنت أمشي أمام أبي بكر، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تمشي أمام من هو خير منك في الدنيا والآخرة». وقيل: نزلت في أقوام كانوا يحضرون مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا سئل الرسول — عن شيء خاضوا فيه، وتقدموا بالقول والفتوى، فنهوا عن ذلك، وهكذا أدب المريد في مجلس الشيخ ينبغي أن يلزم السكوت، ولا يقول شيئًا بحضرته من كلام حسن إلا إذا استأمر الشيخ، ووجد من الشيخ فسحة له في ذلك، وشأن المريد في حضرة الشيخ كمن هو قاعد على ساحل بحر ينتظر رزقًا يساق إليه، فتطلعه إلى الاستماع وما يرزق من طريق كلام الشيخ يحقق مقام إرادته وطلبه واستزادته من فضل الله، وتطلعه إلى القول يرده عن مقام الطلب والاستزادة إلى مقام إثبات شيء لنفسه، وذلك جناية المريد.
وينبغي أن يكون تطلعه إلى مبهم من حاله، يستكشف عنه بالسؤال من الشيخ، على أن الصادق لا يحتاج إلى السؤال باللسان في حضرة الشيخ بل يبادئه بما يريد؛ لأن الشيخ يكون مستنطقًا نطقه بالحق، وهو عند حضور الصادقين برفع قلبه إلى الله ويستمطر ويستسقي لهم، فيكون لسانه وقلبه في القول والنطق مأخوذين إلى مهم الوقت من أحوال الطالبين المحتاجين إلى ما يفتح به عليه؛ لأن الشيخ يعلم تطلع الطالب إلى قوله واعتداده بقوله، والقول كالبذر يقع في الأرض، فإذا كان البذر فاسدًا لا ينبت، وفساد الكلمة بدخول الهوى فيها، فالشيخ ينقي بذر الكلام عن شوب الهوى، ويسلمه إلى الله، ويسأل الله المعونة والسداد، ثم يقول فيكون كلامه بالحق من الحق للحق، فالشيخ للمريدين أمين الإلهام، كما أن جبريل أمين الوحي، فكما لا يخون جبريل في الوحي، لا يخون الشيخ في الإلهام، وكما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى، فالشيخ مقتدٍ برسول الله صلى الله عليه وسلم ظاهرًا وباطنًا، لا يتكلم بهوى النفس.
وهوى النفس في القول لشيئين: أحدهما: طلب استجلاب القلوب، وصرف الوجوه إليه، وما هذا من شأن الشيوخ. والثاني: ظهور النفس باستحلاء الكلام والعجب، وذلك خيانة عند المحققين، والشيخ فيما يجري على لسانه راقد النفس، تشغله مطالعة نعم الحق في ذلك، فاقد الحظ من فوائد ظهور النفس بالاستحلاء والعجب، فيكون الشيخ لما يجري به الحق -سبحانه وتعالى- عليه مستمعًا كأحد المستمعين.
(وكان) الشيخ أبو السعود -رحمه الله- يتكلم مع الأصحاب بما يلقى إليه، وكان يقول: أنا في هذا الكلام مستمع كأحدكم، فأشكل ذلك على بعض الحاضرين، وقال: إذا كان القائل هو يعلم ما يقول، كيف يكون كمستمع لا يعلم حتى يسمع منه؟ فرجع إلى منزله فرأى ليلته في المنام كأن قائلًا يقول له: أليس الغواص يغوص في البحر لطلب الدر ويجمع الصدف في مخلاته، والدر قد حصل معه لكن لا يراه إلا إذا خرج من البحر، ويشاركه في رؤية الدر من هو على الساحل، ففهم بالمنام إشارة الشيخ في ذلك، فأحسنُ أدب المريد مع الشيخ: السكوت والخمود والجمود حتى يبادئه الشيخ بما له فيه من الصلاح قولًا وفعلًا.
(وقيل أيضًا) في قوله تعالى: ﴿لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ﴾ [الحجرات: 1]: لا تطلبوا منزلة وراء منزلته، وهذا من محاسن الآداب وأعزها، وينبغي للمريد ألَّا يحدث نفسه بطلب منزلة فوق منزلة الشيخ، بل يحب للشيخ كل منزلة عالية، ويتمنى للشيخ عزيز المنبح وغرائب المواهب؛ وبهذا يظهر جوهر المريد في حسن الإرادة، وهذا يعز في المريدين، فإرادته للشيخ تعطيه فوق ما يتمنى لنفسه، ويكون قائمًا بآداب الإرادة.
قال السري -رحمه الله-: حسن الأدب ترجمان العقل. وقال أبو عبد الله بن حنيف: قال لي رويم: يا بني، اجعل عملك ملحًا، وأدبك دقيقًا.
وقيل: التصوف كله أدب، لكل وقت أدب، ولكل حال أدب، ولكل مقام أدب، فمن يلزم الأدب يبلغ مبلغ الرجال، ومن حرم الأدب فهو بعيد من حيث يظن القرب، ومردود من حيث يرجو القبول.
ومن تأديب الله تعالى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: ﴿لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ﴾ [الحجرات: 2]. كان ثابت بن قيس بن شماس في أذنه وقر، وكان جهوري الصوت، فكان إذا كلم إنسانًا جهر بصوته، وربما كان يكلم النبي صلى الله عليه وسلم فيتأذي بصوته، فأنزل الله تعالى الآية تأدبيًا له ولغيره.
(أخبرنا) ضياء الدين عبد الوهاب بن علي قال: أنا أبو الفتح الهروي قال: أنا أبو نصر الترياقي قال: أنا أبو محمد الجراحي قال: أنا أبو العباس المحبوبي قال: أنا أبو عيس الترمذي قال: حدثنا محمد بن المثنى قال: حدثنا مؤمل بن إسماعيل قال: حدثنا نافع بن عمر بن جميل الجمحي قال: حدثني حابس بن أبي مليكة قال: حدثني عبد الله بن الزبير أن الأقرع بن حابس قدم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر: استعمله على قومه. فقال عمر: لا تستعمله يا رسول الله. فتكلما عند النبي صلى الله عليه وسلم حتى علت أصواتهما، فقال أبو بكر لعمر: ما أردت إلا خلافي. وقال عمر: ما أردت خلافك. فأنزل الله تعالى الآية. فكان عمر بعد ذلك إذا تكلم عند النبي صلى الله عليه وسلم لا يسمع كلامه حتى يستفهم.
وقيل: لما نزلت الآية آلى أبو بكر ألَّا يتكلم عند النبي إلا كأخ السرار، فهكذا ينبغي أن يكون المريد مع الشيخ، لا ينبسط برفع الصوت وكثرة الضحك وكثرة الكلام، إلا إذا بسطه الشيخ، فرفع الصوت تنحية جلبات القلب الوقار، والوقار إذا سكن القلب عقل اللسان ما يقول، وقد ينازل باطن بعض المريدين من الحرمة والوقار من الشيخ ما لا يستطيع المريد أن يشبع النظر إلى الشيخ. وقد كنت أُحَمُّ فيدخل علي عمي وشيخي أبو النجيب السهروردي -رحمه الله- فيترشح جسدي عرقًا، وكنت أتمنى العرق لتخف الحمى، فكنت أجد ذلك عند دخول الشيخ عَلَيَّ، ويكون في قدومه بركة وشفاء، وكنت ذات يوم في البيت خاليًا، وهناك منديل وهبه لي الشيخ، وكان يتعمم به، فوقع قدمي على المنديل اتفاقًا، فتألم باطني من ذلك، وهالني الوطء بالقدم على منديل الشيخ، وانبعث من باطني من الاحترام ما أرجو بركته.
(قال ابن عطاء) في قوله تعالى: ﴿لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ﴾ [الحجرات: 2]. زجر عن الأدنى؛ لئلا يتخطى أحد إلى ما فوقه من ترك الحرمة، وقال سهل في ذلك: لا تخاطبوه إلا مستفهمين.
(وقال) أبو بكر بن طاهر: لا تبدءوه الخطاب، ولا تجيبوه إلا على حدود الحرمة، ﴿وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ﴾ [الحجرات: 2]. أي: لا تغلظوا له في الخطاب، ولا تنادوه باسمه يا محمد يا أحمد، كما ينادي بعضكم بعضًا، ولكن فخموه واحترموه وقولوا له: يا نبي الله، يا رسول الله، ومن هذا القبيل يكون الخطاب، المريد مع الشيخ. وإذا سكن الوقار القلب علم اللسان كيفية الخطاب، ولما كلفت النفوس بمحبة الأولاد والأزواج وتمكنت أهوية النفوس والطباع استخرجت من اللسان عبارات غريبة، وهي تحت وقتها صاغها كلف النفس وهواها، فإذا امتلأ القلب حرمة ووقارًا يعلم اللسان العبارة.
(وروي): لما نزلت هذه الآية قعد ثابت بن قيس في الطريق يبكي، فمر به عاصم بن عدي فقال: ما يبكيك يا ثابت؟ قال: هذه الآية أتخوف أن تكون نزلت فِيَّ، ﴿أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ﴾ [الحجرات: 2]. وأنا رفيع الصوت على النبي صلى الله عليه وسلم أخاف أن يحبط عملي، وأكون من أهل النار، فمضى عاصم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وغلب ثابتًا البكاء فأتى امرأته جميلة بنت عبد الله بن أبي ابن سلول، فقال لها: إذا دخلت بيت فرسي فسدي عَلَيَّ الضبة بمسمار، فضربته بمسمار حتى إذا خرجت عطفته، وقال: لا أخرج حتى يتوفاني الله، أو يرضى عني رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما أتى عاصم النبي وأخبره بخبره، فقال: «اذهب فادعه». فجاء عاصم إلى المكان الذي رآه فلم يجده، فجاء إلى أهله فوجده في بيت الفرس، فقال له: إن رسول الله يدعوك. فقال: اكسر الضبة. فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما يبكيك يا ثابت؟». فقال: أنا صيت، وأخاف أن تكون هذه الآية نزلت فِيَّ. فقال له رسول الله: «أما ترضى أن تعيش سعيدًا، وتقتل شهيدًا، وتدخل الجنة؟». فقال: قد رضيت ببشرى الله تعالى ورسوله، ولا أرفع صوتي أبدًا على رسول الله. فأنزل الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ﴾ [الحجرات: 3]، قال أنس: كنا ننظر إلى رجل من أهل الجنة يمشي بين أيدينا، فلما كان يوم اليمامة في حرب مسيلمة رأى ثابت من المسلمين بعض الانكسار، وانهزمت طائفة منهم. فقال: أُفٍّ لهؤلاء، وما يصنعون! ثم قال ثابت لسالم بن حذيفة: ما كنا نقاتل أعداء الله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل هذا، ثم ثبتا ولم يزالا يقاتلان، حتى قتل واستشهد ثابت كما وعده رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه درع. فرآه رجل من الصحابة بعد موته في المنام فقال له: اعلم أن فلانًا رجلًا من المسلمين نزع درعي، فذهب بها وهو في ناحية من العسكر، وعنده فرس يستن في طيله، وقد وضع على درعي برمة، فأتِ خالد بن الوليد فأخبره حتى يسترد درعي، وأتِ أبا بكر خليفة رسول الله عليه السلام فقل له: إن عَلَيَّ دينًا حتى يقضي عني، وفلان من عبيدي عتيق. فأخبر الرجل خالدًا فوجد الدرع والفرس على ما وصفه، فاسترد الدرع، وأخبر خالد أبا بكر بتلك الرؤيا، فأجاز أبو بكر وصيته. قال مالك بن أنس -رضي الله عنهما-: لا أعلم وصية أجيزت بعد موت صاحبها إلا هذه. فهذه كرامة ظهرت لثابت بحسن تقواه، وأدبه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فليعتبر المريد الصادق، ويعلم أن الشيخ عنده تذكرة من الله ورسوله، وأن الذي يعتمده مع الشيخ عوض ما لو كان في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، واعتمده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قام القوم بواجب الأدب أخبر الحق عن حالهم وأثنى عليهم فقال: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى﴾ [الحجرات: 3]. أي: اختبر قلوبهم وأخلصها، كما يمتحن الذهب بالنار فيخرج خالصه، وكما أن اللسان ترجمان القلب وتهذب اللفظ لتأدب القلب، فهكذا ينبغي أن يكون المريد مع الشيخ.
(قال أبو عثمان): الأدب عند الأكابر وفي مجالسة السادات من الأولياء يبلغ بصاحبه إلى الدرجات العلا، والخير في الأولى والعقبى، ألا ترى إلى قول الله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ﴾ [الحجرات: 5].
ومما علمهم الله تعالى قوله سبحانه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾ [الحجرات: 4]. وكان هذا الحال من وفد بني تميم، جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنادوا: يا محمد، اخرج إلينا؛ فإن مدحنا زين، وذمنا شين، قال: فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج إليهم وهو يقول: «إنما ذلكم الله الذي ذمه شين، ومدحه زين». في قصة طويلة، وكانوا أتوا بشاعرهم وخطيبهم، فغلبهم حسان بن ثابت وشبان المهاجرين والأنصار بالخطبة، وفي هذا تأدب للمريد في الدخول على الشيخ، والإقدام عليه، وتركه الاستعجال، وصبره إلى أن يخرج الشيخ من موضع خلوته.
سمعت أن الشيخ عبد القادر -رحمه الله- كان إذا جاء إليه فقير زائر يخبر بالفقير، فيخرج ويفتح جانب الباب، ويصافح الفقير ويسلم عليه، ولا يجلس معه ويرجع إلى خلوته، وإذا جاء أحد ممن ليس من زمرة الفقراء يخرج ويجلس معه، فخطر لبعض الفقراء نوع إنكار لتركه الخروج إلى الفقير، وخروجه لغير الفقير، فانتهى ما خطر للفقير إلى الشيخ، فقال: الفقير رابطتنا معه رابطة قلبية، وهو أهل وليس عنده أجنبية، فتكتفى معه بموافقة القلوب، وتقنع بها عن ملاقاة الظاهر بهذا القدر، وأما من هو من غير جنس الفقراء فهو واقف مع العادات والظاهر، فمتى لم يعرف حقه من الظاهر استوحش. فحق المريد عمارة الظاهرة والباطن بالأدب مع الشيخ.
(قيل) لأبي منصور المغربي: كم صحبت أبا عثمان؟ قال: خدمته لا صحبته، فالصحبة مع الإخوان والأقران، ومع المشايخ الخدمة.
وينبغي للمريد أنه كلما أشكل عليه شيء من حال الشيخ يذكر قصة موسى مع الخضر -عليهما السلام- كيف كان الخضر يفعل أشياء ينكرها موسى، وإذا أخبره الخضر بسرها يرجع موسى عن إنكاره، فما ينكره المريد لقلة علمه بحقيقة ما يوجد من الشيخ، فللشيخ في كل شيء عذر بلسان العلم والحكمة.
(سأل) بعض أصحاب الجنيد مسألة من الجنيد، فأجابه الجنيد، فعارضه في ذلك، فقال الجنيد: فإن لم تؤمنوا لي فاعتزلون.
وقال بعض المشايخ: من لم يعظم حرمة من تأدب به حرم بركة ذلك الأدب. وقيل: من قال لأستاذه لا، لا يفلح أبدًا.
(أخبرنا) شيخنا ضياء الدين عبد الوهاب بن علي قال: أنا أبو الفتح الهروي قال: أنا أبو نصر الترياقي قال: أنا أبو محمد الجراحي قال: أنا أبو العباس المحبوبي قال: أنا أبو عيسى الترمذي قال: حدثنا هناد عن أبي معاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اتْرُكُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ، وَإِذَا حَدَّثْتُكُمْ فَخُذُوا مني؛ فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ».
(قال) الجنيد -رحمه الله-: رأيت مع أبي حفص النيسابوري إنسانًا كثير الصمت لا يتكلم، فقلت لأصحابه: من هذا؟ فقيل لي: هذا إنسان يصحب أبا حفص ويخدمنا، وقد أنفق عليه مئة ألف درهم كانت له، واستدان مئة ألف أخرى أنفقها عليه، ما يسوغ له أبي حفص أن يتكلم بكلمة واحدة.
وقال أبو زيد البسطامي: صحبت أبا علي السندي فكنت ألقنه ما يقيم به فرضه، وكان يعلمني التوحيد والحقائق صرفًا.
وقال أبو عثمان: صحبت أبا حفص وأنا غلام حدث فطردني، وقال: لا تجلس عندي. فلم أجعل مكافأتي له على كلامه أن أولي ظهري إليه، فانصرفت أمشي إلى خلف ووجهي مقابل له حتى غبت عنه، واعتقدت أن أحفر لنفسي بئرًا على بابه، وأنزل وأقعد فيه، ولا أخرج منه إلا بإذنه، فلما رأى ذلك مني قربني وقبلني، وصيرني من خواص أصحابه إلى أن مات رحمه الله.
ومن آدابهم الظاهرة أن المريد لا يبسط سجادته مع وجود الشيخ إلا لوقت الصلاة؛ فإن المريد من شأنه التبتل للخدمة، وفي السجادة إيماء إلى الاستراحة والتعزز، ولا يتحرك في السماع مع وجود الشيخ إلا أن يخرج عن حد التمييز، وهيبة الشيخ تملك المريد عن الاسترسال في السماع وتقيده، واستغراقه في الشيخ بالنظر إليه ومطالعة موارد فضل الحق عليه أنجع له من الإصغاء إلى السماع.
ومن الأدب ألَّا يكتم عن الشيخ شيئًا من حاله ومواهب الحق عنده، وما يظهر له من كرامة وإجابة، ويكشف للشيخ عن حاله ما يعلم الله تعالى منه، وما يستحي من كشفه يذكره إيماءً وتعريضًا؛ فإن المريد متى انطوى ضميره على شيء لا يكشفه للشيخ تصريحًا أو تعويضًا يصير على باطنه منه عقدة في الطريق، وبالقول مع الشيخ تنحل العقدة وتزول. ومن الأدب ألَّا يدخل في صحبة الشيخ إلا بعد علمه بأن الشيخ قيم بتأدبيه وتهذيبه، وأنه أقوم بالتأديب من غيره، ومتى كان عند المريد تطلع إلى شيخ آخر لا تصفو صحبته، ولا ينفذ القول فيه، ولا يستعد باطنه لسراية حال الشيخ إليه؛ فإن المريد كلما أيقن تفرد الشيخ بالمشيخة عرف فضله وقويت محبته، والمحبة والتألف هو الواسطة بين المريد والشيخ، وعلى قدر قوة المحبة تكون سراية الحال؛ لأن المحبة علامة التعارف، والتعارف علامة الجنسية، والجنسية جالبة للمريد حال الشيخ أو بعض حاله.
(أخبرنا) الشيخ الثقة أبو الفتح محمد بن سليمان قال: أنا أبو الفضل حميد قال: أنا الحافظ أبو نعيم قال: حدثنا سليمان بن أحمد قال: حدثنا أنس بن أسلم قال: حدثنا عتبة بن رزين عن أبي أمامة الباهلي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من علم عبدًا آية من كتاب الله فهو مولاه، ينبغي له ألَّا يخذله، ولا يستأثر عليه، فمن فعل ذلك فقد فصم عروة من عُرَا الإسلام».
ومن الأدب أن يراعي خطرات الشيخ في جزيئات الأمور وكلياتها، ولا يستحقر كراهة الشيخ ليسير حركاته معتمدًا على حسن خلق الشيخ، وكمال حلمه ومداراته.
(قال) إبراهيم بن شيبان: كنا نصحب أبا عبد الله المغربي ونحن شبان، ويسافر بنا في البراري والفلوات، وكان معه شيخ اسمه حسن، وقد صحبه سبعين سنة، فكان إذا جرى من أحدنا خطأ وتغير عليه حال الشيخ، نتشفع إليه بهذا الشيخ حتى يرجع لنا إلى ما كان.
ومن أدب المريد مع الشيخ ألَّا يستقل بوقائعه وكشفه دون مراجعة الشيخ؛ فإن الشيخ علمه أوسع، وبابه المفتوح إلى الله أكبر، فإن كان واقعة المريد من الله تعالى يوافقه الشيخ ويمضيها له، وما كان من عند الله لا يختلف، وإن كان فيه شبهة تزول شبهة الواقعة بطريق الشيخ، ويكتسب المريد علمًا بصحة الوقائع والكشوف، فالمريد لعله في واقعته يخامره كمون إرادة في النفس، فيتشبك كمون الإرادة بالواقعة منامًا كان ذلك أو يقظة؛ ولهذا سر عجيب.
ولا يقوم المريد باستئصال شأفة الكامن في النفس، وإذا ذكره للشيخ فما في المريد من كمون إرادة النفس مفقود في حق الشيخ، فإن كان من الحق يتبرهن بطريق الشيخ وإن كان ينزع واقعته إلى كمون هوى النفس تزول وتبرأ ساحة المريد، ويتحمل الشيخ ثقل ذلك لقوة حاله وصحة إيوائه إلى جناب الحق، وكمال معرفته، ومن الأدب مع الشيخ أن المريد إذا كان له كلام مع الشيخ في شيء من أمر دينه أو أمر دنياه لا يستعجل بالإقدام على مكالمة الشيخ والهجوم عليه حتى يتبين له من حال الشيخ أنه مستعد له ولسماع كلامه وقوله متفرغ، فكما أن للدعاء أوقاتًا وآدابًا وشروطًا؛ لأنه مخاطبة الله تعالى فللقول مع الشيخ أيضًا آداب وشروط؛ لأنه من معاملة الله تعالى، ويسأل الله تعالى قبل الكلام مع الشيخ التوفيق لما يجب من الأدب، وقد نبه الحق سبحانه وتعالى على ذلك فيما أمر به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في مخاطبته فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً﴾ [المجادلة: 12]. يعني: أمام مناجاتكم.
قال عبد الله بن عباس: سأل الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكثروا حتى شقوا عليه وأحفوه بالمسألة، فأدبهم الله تعالى وفطمهم عن ذلك، وأمرهم ألَّا يناجوه حتى يقدموا صدقة. وقيل: كان الأغنياء يأتون النبي عليه السلام ويغلبون الفقراء على المجلس حتى كره النبي عليه السلام طول حديثهم ومناجاتهم، فأمر الله تعالى بالصدقة عند المناجاة، فلما رأوا ذلك انتهوا عن مناجاته، فأما أهل العسرة فلأنهم لم يجدوا شيئًا، وأما أهل الميسرة فبخلوا ومنعوا، فاشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونزلت الرخصة، وقال تعالى: ﴿أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ﴾ [المجادلة: 13].
وقيل: لما أمر الله تعالى بالصدقة لم يناج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا علي بن أبي طالب، فقدم دينارًا فتصدق به، وقال علي: في كتاب الله آية ما عمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها أحد بعدي. وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزلت الآية دعا عليًّا وقال: «ما ترى في الصدقة كم تكون؟ دينارًا». قال علي: لا يطيقونه، قال: «كم؟».قال علي: تكون حبة أو شعيرة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنك لزهيد»، ثم نزلت الرخصة ونسخت الآية، وما نبه الحق عليه بالأمر بالصدقة، وما فيه من حسن الأدب وتقييد اللفظ والاحترام ما نسخ، والفائدة باقية.
(أخبرنا) الشيخ الثقة أبو الفتح محمد بن سلمان قال: أنا أبو الفضل أحمد قال: أنا الحافظ أبو نعيم قال: حدثنا سليمان بن أحمد قال: حدثنا مطلب بن شعيب قال: حدثنا عبد الله بن صالح قال: حدثنا ابن لهيعة عن أبي قبيل عن عبادة بن الصامت قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ليس منا من لم يجل كبيرنا، ويرحم صغيرنا، ويعرف لعالمنا حقه».
فاحترام العلماء توفيق وهداية، وإهمال ذلك خذلان وعقوق.