(الباب الخامس والثلاثون في آداب أهل الخصوص والصوفية في الوضوء)
آداب الصوفية بعد القيام بمعرفة الأحكام:
آدابهم في الوضوء: حضور القلب في غسل الأعضاء، سمعت بعض الصالحين يقول: إذا حضر القلب في الوضوء يحضر في الصلاة، وإذا دخل السهو فيه دخلت الوسوسة في الصلاة.
ومن آدابهم: استدامة الوضوء، والوضوء سلاح المؤمن، والجوارح إذا كانت في حماية الوضوء -الذي هو أثر شرعي- يقل طروق الشيطان عليها.
قال عدي بن حاتم: ما أقيمت صلاة منذ أسلمت إلا وأنا على وضوء. وقال أنس بن مالك: قدم النبي -عليه الصلاة والسلام- المدينة وأنا يومئذٍ ابن ثمان ،سنين فقال لي: «يا بني، إن استطعت ألَّا تزال على الطهارة فافعل؛ فإنه من أتاه الموت وهو على الوضوء أعطي الشهادة». فشأن العاقل أن يكون أبدًا مستعدًّا للموت، ومن الاستعداد لزوم الطهارة.
(وحكي) عن الحصري أنه قال: مهما أنتبه من الليل لا يحملني النوم إلا بعدما أقوم وأجدد الوضوء؛ لئلا يعود إليَّ النوم وأنا على غير طهارة.
وسمعت من صحب الشيخ علي بن الهيتمي أنه كان يقعد الليل جميعه، فإن غلبه النوم يكون قاعدًا كذلك، وكلما انتبه يقول: لا أكون أسأت الأدب، فيقوم ويجدد الوضوء، ويصلي ركعتين.
(وروى) أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لبلال عند صلاة الفجر: «يَا بِلَالُ، حَدِّثْنِي بِأَرْجَى عَمَلٍ عَمِلْتَهُ فِي الْإِسْلَامِ؛ فَإِنِّي سَمِعْتُ دَفَّ نَعْلَيْكَ بَيْنَ يَدَيَّ فِي الْجَنَّةِ»، قال: مَا عَمِلْتُ عَمَلًا فِي الْإِسْلَامِ أَرْجَى عِنْدِي أَنِّي لَمْ أَتَطَهَّرْ طُهُرًا فِي سَاعَةِ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ إِلَّا صَلَّيْتُ لربي -عَزَّ وَجَلَّ- بِذَلِكَ الطُّهُورِ مَا كُتِبَ لِي أَنْ أُصَلِّيَ.
ومن آدابهم في الطهارة: ترك الإسراف في الماء، والوقوف على حد العلم.
(أخبرنا) الشيخ العالم ضياء الدين عبد الوهاب بن علي قال: أنا أبو الفتح الهروي قال: أنا أبو نصر الترياقي قال: أخبرنا أبو محمد الجراحي قال: أنا أبو العباس المحبوبي قال: أنا أبو عيسى الترمذي قال: حدثنا محمد بن بشار قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا خارجة بن مصعب عن يونس بن عبيد عن الحسن عن يحيى بن ضمرة السعدي عن أُبَيِّ بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لِلْوُضُوءِ شَيْطَانٌ يُقَالَ لَهُ: الْوَلْهَانُ، فَاتَّقُوا وساوس الماء».
قال أبو عبد الله الروذباري: إن الشيطان يجتهد أن يأخذ نصيبه من جميع أعمال بني آدم، فلا يبالي أن يأخذ نصيبه بأن يزدادوا فيما أمروا به، أو ينقصوا عنه.
(وحكي) عن ابن الكرنبي أنه أصابته جنابة ليلة من الليالي، وكانت عليه مرقعة ثخينة غليظة، فجاء إلى الدجلة، وكان برد شديد، فحرنت نفسه عن الدخول في الماء لشدة البرد، فطرح نفسه في الماء مع المرقعة، ثم خرج من الماء وقال: عقدت ألَّا أنزعها من بدني حتى تجف عَلَيَّ فمكثت عليه شهرًا لثخانتها وغلظها، أَدَّب بذلك نفسه لما حرنت عن الائتمار لأمر الله تعالى.
(وقيل): إن سهل بن عبد الله كان يحث أصحابه على كثرة شرب الماء، وقلة صبه على الأرض، وكان يرى أن في الإكثار من شرب الماء ضعف النفس، وإماتة الشهوات، وكسر القوة.
ومن أفعال الصوفية: الاحتياط في استبقاء الماء للوضوء.
(قيل): كان إبراهيم الخواص إذا دخل البادية لا يحمل معه إلا ركوة من الماء، وربما كان لا يشرب منها إلا القليل يحفظ الماء للوضوء. وقيل: إنه كان يخرج من مكة إلى الكوفة، ولا يحتاج إلى التيمم يحفظ الماء للوضوء، ويقنع بالقليل للشرب. وقيل: إذا رأيت الصوفي ليس معه ركوة أو كوز فاعلم أنه قد عزم على ترك الصلاة شاء أم أبى. وحكي عن بعضهم أنه أدب نفسه في الطهارة إلى حد أنه أقام بين ظهراني جماعة من النساك، وهم مجتمعون في دار، فما رآه أحد منهم أنه دخل الخلاء؛ لأنه كان يقضي حاجته إذا خلا الموضع في وقت يريد تأديب نفسه. وقيل: مات الخواص في جامع الري في وسط الماء، وذاك أنه كان به علة البطن، وكلما قام دخل الماء وغسل نفسه، فدخله مرة ومات فيه؛ كل ذلك لحفظه على الوضوء والطهارة، وقيل: كان إبراهيم بن أدهم به قيام، فقام في ليلة واحدة نيفًا وسبعين مرة، كل مرة يجدد الوضوء ويصلي ركعتين. وقيل: إن بعضهم أدب نفسه حتى لا يخرج منه الريح إلا في وقت البراز يراعي الأدب في الخلوات.
واتخاذ المنديل بعد الوضوء كرهه قوم، وقالوا: إن الوَضوء يوزن، وأجازه بعضهم، ودليلهم ما أخبرنا الشيخ العالم ضياء الدين عبد الوهاب بن علي قال: أنا أبو الفتح الهروي قال: أنا أبو نصر قال: أنا أبو محمد قال: أنا أبو العباس قال: أنا أبو عيسى الترمذي قال: حدثنا سفيان بن وكيع قال: حدثنا عبد الوهاب بن وهب عن زيد بن حبان عن أبي معاذ عن الزهري عن عروة عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم خرقة ينشف بها أعضاءه بعد الوضوء، وروى معاذ بن جبل قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا توضأ مسح وجهه بطرف ثوبه.
واستقصاء الصوفية في تطهير البواطن من الصفات الرديئة والأخلاق المذمومة، لا الاستقصاء في طهارة الظاهر إلى حدٍّ يُخرج عن حد العلم، وتوضأ عمر رضى الله عنه مع جرة نصرانية، مع كون النصارى لا يحترزون عن الخمر، وأجرى الأمر على الظاهر وأصل الطهارة، وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلون على الأرض من غير سجادة، ويمشون حفاة في الطرق، وقد كانوا لا يجعلون وقت النوم بينهم وبين التراب حائلًا، وقد كانوا يقتصرون على الحجر في الاستنجاء في بعض الأوقات، وكان أمرهم في الطهارة الظاهرة على التساهل، واستقصاؤهم في الطهارة الباطنة، وهكذا شغل الصوفية، وقد يكون في بعض الأشخاص تشدد في الطهارة، ويكون مستند ذلك رعونة النفس، فلو اتسخ ثوبه تحرج، ولا يبالي بما في باطنه من الغل والحقد، والكبر والعجب، والرياء والنفاق، ولعله ينكر على الشخص لو داس الأرض حافيًا مع وجود رخصة الشرع، ولا ينكر عليه أن يتكلم بكلمة غيبة يخرب بها دينه، وكل ذلك من قلة العلم وترك التأدب بصحبة الصادقين من العلماء الراسخين، وكانوا يكرهون كثرة الدلك في الاستبراء؛ لأنه ربما يسترخي العِرْق ولا يمسك البول، ويتولد منه القطر المفرط.
(ومن حكاية) المتصوفة في الوضوء والطهارات: أن أبا عمرو الزجاجي جاور بمكة ثلاثين سنة، وكان لا يتغوط في الحرم، ويخرج إلى الحل، وأقل ذلك فرسخ.
(وقيل): كان بعضهم على وجهه قرح لم يندمل اثنتي عشرة سنة؛ لأن الماء كان يضره، وكان مع ذلك لا يدع تجديد الوضوء عند كل فريضة. وبعضهم نزل في عينه الماء فحملوا إليه المداوي وبذلوا له مالًا كثيرًا ليداويه، فقال المداوي: يحتاج إلى ترك الوضوء أيامًا، ويكون مستلقيًا على قفاه، فلم يفعل ذلك، واختار ذهاب بصره على ترك الوضوء.