(الباب السادس عشر في ذكر اختلاف أحوال مشايخهم في السفر والمقام)
اختلف أحوال مشايخ الصوفية، فمنهم من سافر في بدايته، وأقام في نهايته، ومنهم من قام في بدايته، وسافر في نهايته، ومنهم من أقام ولم يسافر، ومنهم من استدام السفر ولم يؤثر الإقامة، ونشرح حال كل واحد منهم ومقصده فيما رام.
فأما الذي سافر في بدايته وأقام في نهايته فقصده بالسفر لمعان؛ منها تعلم شيء من العلم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اطلبوا العلم ولو بالصين».
وقال بعضهم: لو سافر رجل من الشام إلى أقصى اليمن في كلمة تدله على هدًى لما كان سفره ضائعًا.
(ونُقِلَ) أن جابر بن عبد الله رحل من المدينة إلى مصر في شهر لحديث بلغه، أن أنسًا يُحَدِّث به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال —: «مِنْ خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ فهو في سبيل الله حتى يرجع».
(وقيل) في تفسير قوله تعالى: ﴿السَّائِحُونَ﴾ [التوبة: 112]: إنهم طلاب العلم.
(حدثنا) شيخنا ضياء الدين أبو النجيب السهروردي -إملاءً- قال: أنا أبو الفتح عبد الملك الهروي، قال: أنا أبو نصر الترياقي، قال: أنا الجراحي، قال: أنا أبو العباس المحبوبي، قال: أنا أبو عيسى الترمذي قال: حدثنا وكيع قال: حدثنا أبو داود عن سفيان عن أبي هارون، قال: كنا نأتي أبا سعيد فيقول: مرحبًا بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن النبي عليه السلام قال: «إِنَّ النَّاسَ لَكُمْ تَبَعٌ، وَإِنَّ الرجال يَأْتُونَكُمْ مِنْ أَقْطَارِ الأَرَض، يَتَفَقَّهُونَ فِي الدِّينِ، فَإِذَا أَتَوْكُمْ فَاسْتَوْصُوا بِهِمْ خَيْرًا».
وقال —:«طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ».
وروت عائشة -رضي الله عنها- قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله تعالى أوحى إلي أنه من سلك مسلكًا في طلب العلم سَهَّلت له طريقًا إلى الجنة».
ومن جملة مقاصدهم في البداية لقاء المشايخ والإخوان الصادقين، فللمريد بلقاء كل صادق مزيدٌ، وقد ينفعه لَحْظ الرجال، كما ينفعه لَفْظ الرجال.
(وقد قيل): من لا ينفعك لَحْظه لا ينفعك لَفْظه، وهذا القول فيه وجهان؛ أحدهما: أن الرجل الصِّدِّيق يكلم الصادقين بلسان فعله أكثر ما يكلم بلسان قوله، فإذا نظر الصادق إلى تصاريفه في مورده ومصدره، وخلوته وجلوته، وكلامه وسكوته ينتفع بالنظر إليه، فهو نفع اللحظ، ومن لا يكون حاله وأفعاله هكذا فلفظه -أيضَا- لا ينفع؛ لأنه يتكلم بهواه، ونورانية القول على قدر نورانية القلب، ونورانية القلب بحسب الاستقامة والقيام بواجب حق العبودية وحقيقتها. والوجه الثاني: أن نَظَرَ العلماء الراسخين في العلم والرجال البالغين ترياقٌ نافعٌ، ينظر أحدهم إلى الرجل الصادق فيستكشف بنفوذ بصيرته حُسْنَ استعداد الصادق واستئهاله لمواهب الله تعالى الخاصة، فيقع في قلبه محبة الصادق من المريدين، وينظر إليه نظر محبة عن بصيرة، وهم من جنود الله تعالى، فيكسبون بنظرهم أحوالًا سنية يهبون وآثارًا مُرضيةً، وماذا ينكر المنكر من قدرة الله أن الله سبحانه وتعالى كما جعل في بعض الأفاعي من الخاصية أنه إذا نظر إلى إنسان يهلكه بنظره أن يجعل في نظر بعض خواص عباده أنه إذا نظر إلى طالبٍ صادقٍ يُكْسبه حالًا وحياةً، وقد كان شيخنا -رحمه الله- يطوف في مسجد الخيف بمنًى، ويتصفح وجوه الناس، فقيل له في ذلك، فقال: لله عباد إذا نظروا إلى الشخص أكسبوه سعادة، فأنا أتطلب ذلك. ومن جملة المقاصد في السفر ابتداءُ قطع المألوفات، والانسلاخُ من ركون النفس إلى معهودٍ ومعلومٍ، والتحامل على النفس بتجرع مرارةَ فُرْقَة الأُلَّاف والخِلَّان، والأهل والأوطان، فمن صبر على تلك المألوفات محتسبًا عند الله أجرًا فقد حاز فضلًا عظيمًا.
أخبرنا أبو زرعة بن أبي الفضل الحافظ المقدسي عن أبيه، قال: أنا القاضي أبو منصور محمد بن أحمد الفقيه الأصفهاني، قال: أنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الله بن خرشيد، قوله قال: حدثنا أبو بكر عبد الله بن محمد بن زيادة النيسابوري قال: حدثنا يونس بن عبد الأعلى قال: حدثنا ابن وهب قال: حدثني يحيى بن عبد الله عن أبي عبد الرحمن عن عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو بن العاص، قَالَ: مَاتَ رَجُلٌ بِالْمَدِينَةِ مِمَّنْ وُلِدَ بِهَا، فَصَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ قَالَ: «لَيْتَهُ مَاتَ بِغَيْرِ مَوْلِدِهِ». قَالُوا: وَلِمَ ذَاكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا مَاتَ بِغَيْرِ مَوْلِدِهِ قِيسَ لَهُ مِنْ مَوْلِدِهِ إِلَى مُنْقَطَعِ أَثَرِهِ مِنَ الْجَنَّةِ».
ومن جملة المقاصد في السفر استكشافُ دقائق النفوس، واستخراج رعوناتها ودعاويها؛ لأنها لا تكاد تتبين حقائق ذلك بغير السفر، وسمي السفر سفرًا لأنه يُسْفر عن الأخلاق، وإذا وفق على دائه يتشمر لدوائه، وقد يكون أثر السفر في نفس المبتدي كأثر النوافل من الصلاة والصوم والتهجد وغير ذلك، وذلك أن المتنفل سائحٌ سائرٌ إلى الله تعالى من أوطان الغفلات إلى محل القربات، والمسافر يقطع المسافات، ويتقلب في المفاوز والفلوات بحسن النية لله تعالى، سائرًا إلى الله تعالى بمراغمة الهوى، ومهاجرة ملاذِّ الدنيا.
(أخبرنا) شيخنا -إجازة- قال: أنا عمر بن أحمد، قال: أنا أحمد بن محمد بن خلف، قال: أنا أبو عبد الرحمن السلمي قال: سمعت عبد الواحد بن بكر، يقول: سمعت على بن عبد الرحيم، يقول: سمعت النوري، يقول: التصوف: ترك كل حظ النفس، فإذا سافر المبتدي تاركًا حظ النفس تطمئن النفس، وتلين كما تلين بدوام النافلة، ويكون لها بالسفر دِبَاغٌ، يُذْهِبُ عنها الخشونة واليبوسة الجِبِلِيَّة والعفونة الطبيعية، كالجلد يعود من هيئة الجلود إلى هيئة الثياب، فتعود النفس من طبيعة الطغيان إلى طبيعة الإيمان.
ومن جملة المقاصد في السفر رؤية الآثار والعبر، وتسريح النظر في مسارح الفكر، ومطالعة أجزاء الأرض والجبال، ومواطئ أقدام الرجال، واستماع التسبيح من ذرات الجمادات، والفهم من لسان حال القطع المتجاورات، فقد تتجدد اليقظة بتجدد مستودع العبر والآيات، وتتوفر بمطالعة المشاهد والمواقف الشواهد والدلالات.
قال الله تعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾ [فصِّلت: 53].
وقد كان السري يقول للصوفية: إذا خرج الشتاء ودخل أدار، وأورقت الأشجار طاب الانتشار.
ومن جملة المقاصد بالسفر إيثارُ الخمول، واطراح حظ القبول، فصدق الصادق يَنُمُّ على أحسن الحال، ويرزق من الخلق حسن الإقبال، وقلما يكون صادق متمسك بعروة الإخلاص ذو قلب عامر إلا ويرزق إقبال الخلق عَلَيَّ؛ لأني أبلغ نفسي حظها من الهوى، فإني لا أبالي أٌقبلوا أو أدبروا، ولكن لكون إقبال الخلق علامة تدل على صحة الحال، فإذا ابتلي المريد بذلك لا يأمن نفسه أن تدخل عليه بطريق الركون إلى الخلق، وربما يُفتح عليه بابٌ من الرفق وتدخل النفس عليه من طريق البِرِّ، والدخول في الأسباب المحمودة، وتُرِيه فيه وجه المصلحة والفضيلة في خدمة عباد الله وبذل الموجود، ولا تزال النفس به والشيطان حتى يَجُرَّاه إلى السكون إلى الأسباب، واستحلاء قبول الخلق، وربما قَوِيَا عليه فجرَّاه إلى التصنع والتعمل، ويتسع الخَرْق على الراقع.
(وسمعت) أن بعض الصالحين قال لمريد له: أنت الآن وصلت إلى مقامٍ لا يدخل عليك الشيطان من طريق الشر، ولكن يدخل عليك من طريق الخير، وهذا مزلةٌ عظيمةٌ للأقدام، فالله تعالى يدرك الصادق إذا ابتلي بشيء من ذلك، ويزعجه بالعناية السابقة والمعونة اللاحقة إلى السفر، فيفارق المعارف، والموضع الذي فتح عليه هذا الباب فيه، ويتجرد لله تعالى بالخروج إلى السفر، وهذا من أحسن المقاصد في الأسفار للصادقين، فهذه جمل المقاصد المطلوبة للمشايخ في بداياتهم ما عدا الحج والغزو وزيارة بيت المقدس.
(وقد نُقِلَ) أن ابن عمر خرج من المدينة قاصدًا إلى بيت المقدس، وصلى فيه الصلوات الخمس، ثم أسرع راجعًا إلى المدينة من الغد.
ثم إذا مَنَّ الله على الصادق بإحكام أمور بدايته قَلَبَه في الأسفار، ومنحه الحظ من الاعتبار، وأخذ نصيبه من العلم قدر حاجته، واستفاد من مجاورة الصالحين، وانتقش في قلبه فوائد النظر إلى حال المتقين، وتعطر باطنه باستنشاق عَرْف معارف المقربين، وتحصن بحماية نظر أهل الله وخاصته، وسَيَّر أحوال النفس، وأَسْفَر السفر عن دقائق أخلاقها وشهواتها الخفية، وسقط عن باطنه نظر الخلق وصار يَغلب ولا يُغلب، كما قال الله تعالى إخبارًا عن موسى: ﴿فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ المُرْسَلِينَ﴾ [الشعراء: 21].
فعند ذلك يرده الحق إلى مقامه، ويمده بجزيل إنعامه، ويجعله إمامًا للمتقين، به يُقْتَدى، وعَلَمًا للمؤمنين به يُهْتَدى.
وأما الذي أقام في بدايتهـ وسافر في نهايته يكون ذلك شخصًا يَسَّر الله له في بداية أمره صحبة صحيحة، وقيض له شيخًا عالمًا، يسلك به الطريق، ويدرجه إلى منازل التحقيق، فيُلَازم موضع إرادته، ويلتزم بصحبة من يرده عن عادته، وقد كان الشِّبْلي يقول للحُصَرِيّ في ابتداء أمره: إن خطر ببالك من الجمعة إلى الجمعة غير الله فحرام عليك أن تحضرني. فمن رُزِق مثل هذه الصحبة يحرم عليه السفر، فالصحبة خيرٌ له من كل سفر وفضيلةٍ يقصدها.
(أخبرنا) رضي الدين أبو الخير أحمد بن إسماعيل القزويني -إجازة- قال: أنا أبو المظفر عبد المنعم بن عبد الكريم بن هوازن القشيري عن والده الأستاذ أبي القاسم قال: سمعت محمد بن عبد الله الصوفي، يقول: سمعت عياش بن أبي الصخر، يقول: سمعت أبا بكر الزقاق، يقول: لا يكون المريد مريدًا حتى لا يَكْتب عليه صاحب الشمال شيئًا عشرين سنة، فمن رُزِقَ صحبة من يندبه إلى مثل هذه الأحوال السنية، والعزائم القوية يَحْرُم عليه المفارقة واختيار السفر، ثم إذا أَحْكَم أمره في الابتداء بلزوم الصحبة وحسن الاقتداء، وارتوى من الأحوال، وبلغ مبلغ الرجال، وانبجس من قلبه عيون ماء الحياة، وصارت نفسه مكسبة للسعادات، يستنشق نفس الرحمن من صدور الصادقين من الإخوان في أقطار الأرض وشاسع البلدان يشرئب إلى التلاق، وينبعث إلى الطواف في الآفاق، يُسَيِّره الله تعالى في البلاد؛ لفائدة العباد، ويستخرج بمغناطيس حاله خَبْءَ أهل الصدق والمتطلعين إلى من يخبر عن الحق، ويبذر في أراضي القلوب بذر الفلاح، ويكثر ببركة نفسه وصحبته أهل الصلاح، وهذا مثل هذه الأمة الهادية في الإنجيل كزرع أخرج شطئه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه، تعود بركة البعض على البعض، وتسري الأحوال من البعض إلى البعض، ويكون طريق الوراثة معمورًا، وعلم الإفادة منشورًا.
(أخبرنا) شيخنا، قال: أنا الإمام عبد الجبار البيهقي -في كتابه- أنا أبو بكر البيهقي، قال: أنا أبو علي الروذباري قال: حدثنا أبو بكر بن داسته قال: حدثنا أبو داود، قال: أنا يحيى بن أيوب قال: حدثنا إسماعيل بن جعفر، قال: أخبرني العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة رضى الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ دَعَى إِلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنَ الأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَن اتبعه، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْء، وَمَنْ دَعَى إِلَى ضَلَالَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَن اتبعه، لَا يُنْقِصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا».
فأما من أقام ولم يسافر يكون ذلك شخصًا رباه الحق سبحانه وتعالى وتولاه، وفتح عليه أبواب الخير وجذبه بعنايته.
(وقد ورد): «جذبة من جذبات الحق توازي عمل الثقلين»، ثم لما علم منه الصدق، ورأى حاجته إلى من ينتفع به سَاقَ إليه بعض الصديقين، حتى أيده بلطفه ولَفْظِه وتداركه بلحظه، ولَقَّحَه بقوة حاله، وكفاه يسير الصحبة؛ لكمال الأهلية في الصاحب والمصحوب، وإجراء سنة الله تعالى في إعطاء الأسباب حقها لإقامة رسم الحكمة يُحْوِج إلى يسير الصحبة، فيتنبه بالقليل للكثير، ويغنيه اليسير من الصحبة عن اللحظ الكثير، ويكتفي بوافر حظ الاستبصار عن الأسفار، ويتعوض بأشعة الأنوار عن مطالعة العبر والآثار.
كما قال بعضهم: الناس يقولون: افتحوا أعينكم وأبصروا، وأنا أقول: غمضوا أعينكم وأبصروا.
(وسمعت) بعض الصالحين يقول: لله عباد، طُورُ سِينَاهُم رُكَبُهُم، تكون رءوسهم على ركبهم، وهم في محالِّ القرب، فمن نبع له معينُ الحياةِ في ظلمةِ خلوته فماذا يصنع بدخول الظلمات؟ ومن اندرجت له أطباق السماوات في طي شهوده ماذا يصنع بتقلب طرفه في السماوات؟ ومن جمعت أحداقُ بصيرته متفرقات الكائنات ماذا يستفيد من طي الفلوات؟ ومن خلص بخاصية فطرته إلى مجمع الأرواح ماذا تفيده زيارة الأشباح؟.
(قيل): أرسل ذو النون المصري إلى أبي يزيد رجلًا، وقال: قل له: إلى متى هذا النوم والراحة وقد سارت القافلة؟ فقال للرسول: قل لأخي: الرجل من ينام الليل كله، ثم يصبح في المنزل قبل القافلة. فقال ذو النون: هنيئًا له، هذا كلام لا تبلغه أحوالنا.
(وكان) بِشْرٌ يقول: يا معشر القراء، سيحوا تطيبوا؛ فإنَّ الماء إذا كَثُرَ مُكْثُه في موضع تَغَيَّر.
وقيل: قال بعضهم عند هذا الكلام: صِرْ بحرًا حتى لا تتغير. فإذا أدام المريد سَيْرَ الباطن بقطع مسافة النفس الأمارة بالسوء حتى قطع منازل آفاتها، وبدل أخلاقها المذمومة بالمحمودة، وعانق الإقبال على الله تعالى بالصدق والإخلاص اجتمع له المتفرقات، واستفاد في حَضَرِه أكثر من سفره؛ لكون السفر لا يخلو من مَتَاعِب وكُلَفٍ ومشوشات وطوارق ونوازل، يتجدد الضعف عن سياستها بالعلم للضعفاء، ولا يقدر على تسليط العلم على متجددات السفر وطوارقه إلا الأقوياء.
(قال) عمر بن الخطاب رضى الله عنه للذي زكى عنده رجلًا: هل صَحِبْتَه في السفر الذي يستدل به على مكارم الأخلاق؟ قال: لا، قال: ما أراك تعرفه. فإذا حفظ الله عبده في بداية أمره من تشويش السفر، ومتعه بجمع الهَمِّ وحسن الإقبال في الحضر، وساق إليه من الرجال من اكتسب به صلاح الحال فقد أحسن إليه.
(قيل) في تفسير قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾ [الطَّلاق: 2، 3]: هو الرجل المنقطع إلى الله، يَشْكُل عليه شيء من أمر الدين فيبعث الله إليه من يَحُلُّ إشكاله، فإذا ثبت قدمه على شروط البداية رُزِقَ وهو في المقام من غير سفر ثمراتِ النهاية، فيستقر في الحضر انتهاءً وابتداءً، وأُقِيمَ في هذا المقام جمع من الصالحين.
وأما الذي أدام السفر فرأى صلاح قلبه وصحة حاله في ذلك، يقول بعضهم: اجتهد أنْ تكون كل ليلة ضيفَ مسجدٍ، ولا تموت إلا بين منزلين.
وكان من هذه الطبقة إبراهيم الخواص ما كان يقيم في بلد أكثر من أربعين يومًا، وكان يرى إن أقام أكثر من أربعين يومًا يَفْسُد عليه توكله، فكان علم الناس ومعرفتهم إياه يراه سببًا ومعلومًا.
(وحُكِي) عنه أنه قال: مكثتُ في البادية أحد عشر يومًا، لم آكل، وتطلعت نفسي أن آكل من حشيش البَرِّ، فرأيت الخضر مقبلًا نحوي فهربت منه، ثم التفت فإذا هو رجع عني، فقيل: لم هربتَ منه؟ قال: تَشَوَّفَت نفسي أن يغيثني. فهؤلاء الفرارون بدينهم.
(أخبرنا) أبو زرعة طاهر بن الحافظ أبي الفضل المقدسي عن أبيه، قال: أنا أبو بكر أحمد بن علي، قال: أنا أبو عبد الله بن يوسف بن نامويه قال: حدثنا أبو محمد الزهري القاضي قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن أسباط قال: حدثنا أبو نعيم قال: حدثنا محمد -يعني ابن مسلم- عن عثمان بن عبد الله بن أوس عن سليمان بن هرمز عن عبد الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أحب شيء إلى الله الغرباء». قيل: ومن الغرباء؟ قال:«الفرَّارون بدينهم، يجتمعون إلى عيسى ابن مريم يوم القيامة».
وهذه كلها أحوال اختلفت، واتبع أربابها الصحة وحسن النية مع الله، وحسن النية يقتضي الصدق، والصدق لعينه محمود كيف تقلبت الأحوال، فمن سافر ينبغي أن يتفقد حاله، ويصحح نيته، ولا يقدر على تخليص النية من شوائب النفس إلا كثير العلم، تام التقوى، وافر الحظ من الزهد في الدنيا، ومن انطوى على هوًى، ومن لم يستقص في الزهد لا يقدر على تصحيح النية، فقد يدعوه إلى السفر نشاط جِبِلِّي نفساني، وهو يظن أن ذلك داعيةَ الحق، ولا يميز بين داعية الحق وداعية النفس، ويحتاج الشخص في علم صحة النية إلى العلم بمعرفة الخواطر، وشرح الخواطر وعلمها يحتاج إلى باب مفرد لنفسه، ونومئ الآن إلى ذلك برمز يدركه من نازله شيء من ذلك، فأكثر الفقراء مَن عَلِم ذلك ومعرفته على بعد.
اعلم أن ما ذكرناه من نشاط النفس واقعٌ للفقير في كثير من الأمور، فقد يجد الفقير الروحَ بالخروج إلى بعض الصحاري والبساتين، ويكون ذلك الروح مضرًّا به في ثاني الحال، وإن كان يتراءى له طيبة القلب في الوقت، وسبب طيبة قلبه في الوقت أن النفس تنفسح وتتسع ببلوغ غرضها، وتيسير يسير هواها بالخروج إلى الصحراء والتنزه، وإذا اتسعت بعدت عن القلب وتنحت عنه متشوفةً إلى متعلق هواها، فيتروح القلب لا بالصحراء، بل ببعد النفس منه، كشخص تباعد عنه قرين يستثقله، ثم إذا عاد الفقير إلى زاويته واستفتح ديوان معاملته، وميز دستور حاله يجد النفس مقارنة للقلب بمزيد ثقل موجب لتبرمه بها، وكلما ازداد ثقلها تكدر القلب؛ وسبب زيادة ثقلها استرسالها في تناول هواها، فيصير الخروج إلى الصحراء عين الداء، ويظن الفقير أنه ترويح ودواء، فلو صبر على الوحدة والخلوة ازدادت النفس ذوبانًا، وخَفَّت ولَطُفَت، وصارت قرينًا صالحًا للقلب لا يستثقلها، وعلى هذا يُقَاس التروح بالأسفار، فللنفس وَثَبَاتٌ إلى توهم التروحات، فمن فطن لهذه الدقيقة لا يغتر بالتروحات المستعارة التي لا تُحْمَد عاقبتُها، ولا تُؤْمَن غائلتُها، ويتثبت عند ظهور خاطر السفر، ولا يكترث بالخطر، بل يطرحه بعدم الالتفات مسيئًا ظنه بالنفس وتسويلاتها، ومن هذا القبيل -والله أعلم- قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الشَّمْسَ تَطْلُعُ مِنْ بَيْن قَرْنَي الشَّيْطَانِ». فيكون للنفس عند طلوع الشمس وَثَبَاتٌ، تستند تلك الوثبات والنهضات من النفس إلى المزاج والطبائع، ويطول شرح ذلك ويعمق.
ومن ذلك القبيل خفةُ مرض المريض غُدْوةً بخلاف العشيات، فيتشكل اهتزاز النفس بنهضات القلب، ويدخل على الفقير من هذا القبيل آفات كثيرة، يدخل في مداخل باهتزاز نفسه ظنًّا منه أن ذلك حكم نهوض قلبه، وربما يتراءى له أنه بالله يصول، وبالله يقول، وبالله يتحرك، فقد ابتُلِي بنهضة النفس ،ووثوبها ولا يقع هذا الاشتباه إلا لأرباب القلوب وأرباب الأحوال، وغير أرباب القلب والحال عن هذا بمعزل، وهذه مزلة قدم مختصة بالخواص دون العوام، فاعلم ذلك فإنه عزيز علمه، وأقل مراتب الفقراء في مبادي الحركة للسفر لتصحيح وجه الحركة أن يقدموا صلاة الاستخارة، وصلاة الاستخارة لا تُهْمَل، وإن تبين للفقير صحة خاطره، أو تبين له وجه المصلحة في السفر ببيان أوضح من الخاطر، فللقوم مراتب في التبيان من العلم بصحة الخاطر، ومما فوق ذلك، ففي ذلك كله لا تُهْمَل صلاة الاستخارة اتباعًا للسنة، ففي ذلك البركة، وهو من تعليم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما حدثنا شيخنا ضياء الدين أبو النجيب السهروردي -إملاء- قال: أنا أبو القاسم ابن عبد الرحمن -في كتابه- أن أبا سعيد الكنجرودي أخبرهم، قال: أنا أبو عمرو بن حمدان قال: حدثنا أحمد بن الحسين الصوفي قال: حدثنا منصور بن أبي مزاحم قال: حدثنا عبد الرحمن بن أبي الموالي عن محمد بن المنكدر عن جابر رضى الله عنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُعَلِّمُنَا الِاسْتِخَارَةَ كَمَا يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ مِنَ الْقُرْآنِ، قال: «إِذَا هَمَّ أَحَدُكُمْ بِالأَمْرِ -أو: أراد الأمر- فليصل رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الْفَرِيضَةِ، ثُمَّ لِيَقُلِ: اللهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ الْعَظِيمِ؛ فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلَا أَقْدِرُ، وَتَعْلَمُ وَلَا أَعْلَمُ، وَأَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ، اللهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الأَمْرَ -يسميه بعينه- خَيْرٌ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي ومعادي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي -أَوْ قَالَ: عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ- فَاقْدُرْهُ لِي، ثُمَّ بَارِكْ لِي فِيهِ، وَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُه شَرًّا لِي -مثل ذلك- فَاصْرِفْهُ عَنِّي، وَاصْرِفْنِي عَنْهُ، وَاقْدُرْ لِي الْخَيْرَ حَيْثُ كَانَ».