(الباب الثامن والخمسون في شرح الحال والمقام والفرق بينهما)
قد كثر الاشتباه بين الحال والمقام، واختلفت إشارات الشيوخ في ذلك، ووجود الاشتباه لمكان تشابههما في نفسهما وتداخلهما، فتراءى للبعض الشيء حالًا وتراءى للبعض مقامًا، وكلا الرؤيتين صحيح؛ لوجود تداخلهما، ولا بد من ذكر ضابط يفرق بينهما، على أن اللفظ والعبارة عنهما مشعر بالفرق، فالحال سمي حالًا لتحوله، والمقام مقامًا لثبوته واستقراره.
(وقد) يكون الشيء بعينه حالًا ثم يصير مقامًا مثل أن ينبعث من باطن العبد داعية المحاسبة، ثم تزول الداعية بغلبة صفات النفس، ثم تعود، ثم تزول فلا يزال العبد حال المحاسبة يتعاهد الحال، ثم يحول الحال بظهور صفات النفس إلى أن تتداركه المعونة من الله الكريم، ويغلب حال المحاسبة، وتنقهر النفس وتنضبط، وتتملكها المحاسبة، فتصير المحاسبة وطنه ومستقره ومقامه، فيصير في مقام المحاسبة بعد أن كان له حال المحاسبة.
(ثم) ينازله حال المراقبة، فمن كانت المحاسبة مقامه يصير له من المراقبة حال.
(ثم) يحول حال المراقبة لتناوب السهو والغفلة في باطن العبد إلى أن ينقشع ضباب السهو والغفلة، ويتدارك الله عبده بالمعونة، فتصير المراقبة مقامًا بعد أن كانت حالًا، ولا يستقر مقام المحاسبة قراره إلا بنازل حال المراقبة، ولا يستقر مقام المراقبة قراره إلا بنازل حال المشاهدة، فإذا منح العبد بنازل حال المشاهدة استقرت مراقبته، وصارت مقامه، ونازل المشاهدة أيضًا يكون حالًا يحول بالاستتار، ويظهر بالتجلي، ثم يصير مقامًا، وتتخلص شمسه عن كسوف الاستتار، ثم مقام المشاهدة أحوال وزيادات وترقيات من حال إلى حال أعلى منه، كالتحقق بالفناء، والتخلص إلى البقاء، والترقي من عين اليقين إلى حق اليقين، وحق اليقين نازل يخرق شغاف القلب، وذلك أعلى فروع المشاهدة.
(وقد) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم إني أسألك إيمانًا يباشر قلبي».
(قال) سهل بن عبد الله: للقلب تجويفان؛ أحدهما باطن وفيه السمع والبصر، وهو قلب القلب وسويداؤه. والتجويف الثاني: ظاهر القلب وفيه العقل، ومثل العقل في القلب مثل النظر في العين، وهو صقال لموضع مخصوص فيه بمنزلة الصقال الذي في سواد العين، ومنه تنبعث الأشعة المحيطة بالمرئيات، فهكذا تنبعث من نظر العقل أشعة العلوم المحيطة بالمعلومات، وهذه الحالة التي خرقت شغاف القلب ووصلت إلى سويدائه، وهي حق اليقين هي أسنى العطايا وأعز الأحوال وأشرفها، ونسبة هذه الحال من المشاهدة كنسبة الأجر من الثواب؛ إذ يكون ترابًا ثم طينًا ثم لبنًا ثم آجرًّا.
فالمشاهدة هي الأول والأصل يكون منها الفناء كالطين، ثم البقاء كاللبن، ثم هذه الحالة وهي آخر الفروع، ولما كان الأصل في الأحوال هذه الحالة وهي أشرف الأحوال، وهي محض موهبة لا تكتسب سميت كل المواهب من النوازل بالعبد أحوالًا؛ لأنها غير مقدورة للعبد بكسبه فأطلقوا القول، وتداولت ألسنة الشيوخ أن المقامات مكاسب، والأحوال السماوات ومتنزل البركات، وهذه الأحوال لا يتحقق بها إلا ذو قلب سماوي.
(قال بعضهم): الحال هو الذكر الخفي، وهذا إشارة إلى شيء مما ذكرناه.
(وسمعت) المشايخ بالعراق يقولون: الحال ما من الله، فكل ما كان من طريق الاكتساب والأعمال يقولون: هذا ما من العبد، فإذا لاح للمريد شيء من المواهب والمواجيد قالوا: هذا ما من الله وسموه حالًا إشارة منهم إلى أن الحال موهبة.
(وقال) بعض مشايخ خراسان: الأحوال مواريث الأعمال.
(وقال بعضهم:) الأحوال كالبروق، فإن بقي فحديث النفس، وهذا لا يكاد يستقيم على الإطلاق، وإنما مواهب، وعلى الترتيب الذي درجنا عليه كلها مواهب؛ إذ المكاسب محفوفة بالمواهب، والمواهب محفوفة بالمكاسب، فالأحوال مواجيد، والمقامات طرق المواجيد، ولكن في المقامات ظهر الكسب وبطنت المواهب، وفي الأحوال بطن الكسب وظهرت المواهب، فالأحوال مواهب علوية سماوية، والمقامات طرقها.
وقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضى الله عنه: سلوني عن طرق السماوات؛ فإني أعرف بها من طرق الأرض، إشارة إلى المقامات والأحوال، فطرق السماوات: التوبة والزهد وغير ذلك من المقامات، فإن السالك لهذه الطرق يصير قلبه سماويًّا، وهي طرق يكون ذلك في بعض الأحوال؛ فإنها تطرق مم تستلبها النفس، فأما على الإطلاق فلا، والأحوال لا تمتزج بالنفس، كالدهن لا يمتزج بالماء.
(وذهب) بعضهم إلى أن الأحوال لا تكون إلا إذا دامت، فأما إذا لم تدم فهي لوائح وطوالع وبوارد، وهي مقدمات الأحوال وليست بأحوال.
(واختلفت المشايخ) في أن العبد هل يجوز له أن ينتقل إلى مقام غير مقامه الذي هو فيه قبل إحكام حكم مقامه.
(قال بعضهم): لا ينبغي أن ينتقل عن الذي هو فيه دون أن يُحْكِم حكم مقامه.
وقال بعضهم: لا يكمل المقام الذي هو فيه إلا بعد ترقيه إلى مقام فوقه، فينظر من مقامه العالي إلى ما دونه من المقام فيُحْكِم أمر مقامه، والأولى أن يقال -والله أعلم-: الشخص في مقامه يعطى حالًا من مقامه الأعلى الذي سوف يرتقي إليه، فبوجدان ذلك الحال يستقيم أمر مقامه الذي هو فيه، ويتصرف الحق فيه كذلك، ولا يضاف الشيء إلى العبد أنه يرتقي، أو لا يرتقي؛ فإن العبد بالأحوال يرتقي إلى المقامات، والأحوال مواهب يرقى إلى المقامات التي يمتزج فيها الكسب بالموهبة، ولا يلوح للعبد حال من مقام أعلى مما هو فيه إلا وقد قرب ترقيه إليه فلا يزال العبد يرقى إلى المقامات بزائد الأحوال، فعلى ما ذكرناه يتضح تداخل المقامات والأحوال حتى التوبة، ولا تعرف فضيلة إلا فيها حال ومقام، وفي الزهد حال ومقام، وفي التوكل حال ومقام، وفي الرضا حال ومقام.
قال أبو عثمان الحيري: منذ أربعين سنة ما أقامني الله في حال فكرهته، أشار إلى الرضا، ويكون منه حالًا ثم يصير مقامًا، والمحبة حال ومقام، ولا يزال العبد يتتوب بطروق حال التوبة حتى يتوب، وطروق حال التوبة بالانزجار أولًا.
(قال بعضهم): الزجر هيجان في القلب لا يسكنه إلا الانتباه من الغفلة فيرده إلى اليقظة، فإذا تيقظ أبصر الصواب من الخطأ.
وقال بعضهم: الزجر ضياء في القلب، يبصر به خطأ قصده، والزجر في مقدمة التوبة على ثلاثة أوجه: زجر من طريق العلم، وزجر من طريق العقل، وزجر من طريق الإيمان؛ فينازل التائب حال الزجر وهي موهبة من الله تعالى، تقوده إلى التوبة، فلا يزال بالعبد ظهور هوى النفس يمحوه آثار حال التوبة والزجر حتى تستقر، وتصير مقامًا وهكذا في الزهد لا يزال يتزهد بنازلة حال، تريه لذة ترك الإشغال بالدنيا، وتقبح له الإقبال عليها فتمحوه أثر حاله بدلالة شره النفس وحرصها على الدنيا ورؤية العاجلة حتى تتداركه المعونة من الله الكريم، فيزهد ويستقر زهده، ويصير الزهد مقامه، ولا تزال نازلة حال التوكل تقرع باب قلبه حتى يتوكل، وهكذا حال الرضا حتى يطمئن على الرضا، ويصير ذلك مقامه.
وها هنا لطيفة وذلك أن مقام الرضا والتوكل يثبت ويحكم ببقائه مع وجود داعية الطبع، ولا يحكم ببقاء حال الرضا مع وجود داعية الطبع، وذلك مثل كراهة يجدها الراضي بحكم الطبع، ولكن علمه بمقام الرضا يعمر حكم الطبع، وظهور حكم الطبع في وجود الكراهية المغمورة بالعلم لا يخرجه عن مقام الرضا، ولكن يفقد حال الرضا؛ لأن الحال لما تجردت موهبة أحرقت داعية الطبع.
فيقال: كيف يكون صاحب مقام في الرضا ولا يكون صاحب حال فيه، والحال مقدمة المقام، والمقام أثبت ؟
نقول: لأن المقام لما كان مشوبًا بكسب العبد احتمل وجود الطبع فيه، والحال لما كانت موهبة من الله نزهت عن مزج الطبع، فحال الرضا أصلف، ومقام الرضا أمكن.
ولا بد للمقامات من زائد الأحوال، فلا مقام إلا بعد سابقة حال، ولا تفرد للمقامات دون سابقة الأحوال، فمنها ما يصير مقامًا، ومنها ما لا يصير مقامًا، والسر فيه ما ذكرناه أن الكسب في المقام ظهر والموهبة بطنت، وفي الحال ظهرت الموهبة والكسب بطن، فلما كان في الأحوال الموهبة غالبة لم تتقيد، وصارت الأحوال إلى ما لا نهاية لها، ولطف سني الأحوال أن يصير مقامًا، ومقدورات الحق غير متناهية، ومواهبه غير متناهية، ولهذا قال بعضهم: لو أعطيت روحانية عيسى ومكالمة موسى وخلة إبراهيم عليه السلام لطلبت ما وراء ذلك؛ لأن مواهب الله لا تنحصر، وهذه أحوال الأنبياء ولا تعطى الأولياء، ولكن هذه إشارة من القائل إلى دوام تطلع العبد وتطلبه وعدم قناعته بما هو فيه من أمر الحق تعالى؛ لأن سيد الرسل صلوات الله عليه وسلامه نبه على عدم القناعة، وقرع باب الطلب، واستنزال بركة المزيد بقوله —:«كل يوم لم أزدد فيه علمًا فلا بورك لي في صبيحة ذلك اليوم». وفي دعائه صلى الله عليه وسلم: «اللهم ما قصر عنه رأيي وضعف فيه عملي ولم تبلغه نيتي وأمنيتي من خير وعدته أحدًا من عبادك، أو خير أنت معطيه أحدًا من خلقك فأنا أرغب إليك وأسألك إياه». فاعلم أن مواهب الحق لا تنحصر، والأحوال مواهب، وهي متصلة بكلمات الله التي ينفد البحر دون نفادها، وتنفد أعداد الرمال دون أعدادها، والله المنعم المعطي.