(الباب السابع والأربعون في أدب الانتباه من النوم والعمل بالليل)
إذا فرغ المؤذن من أذان المغرب يصلي ركعتين خفيفتين بين الأذان والإقامة، وكان العلماء يصلون هاتين الركعتين في البيت، يعجلون بهما قبل الخروج إلى الجماعة كيلا يظن الناس أنهما سنة مرتبة، فيقتدى بهم ظنًّا منهم أنهما سنة، وإذا صلى المغرب يصلي ركعتي السنة السنة بعد المغرب، يعجل بهما؛ فإنهما يرفعان مع الفريضة، يقرأ فيهما بـ: «قل يا أيها الكافرون» و«قل هو الله أحد»، ثم يسلم على ملائكة الليل والكرام الكاتبين، فيقول: مرحبًا بملائكة الليل، مرحبًا بالملكين الكريمين الكاتبين، اكتبا في صحيفتي أني أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله، وأشهد أن الجنة حق، والنار حق، والحوض حق، والشفاعة حق، والصراط والميزان حق، وأشهد أن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، اللهم أودعك هذه الشهادة ليوم حاجتي إليها، اللهم احطط بها وزري، واغفر بها ذنبي، وثقل بها ميزاني، وأوجب لي بها أماني، وتجاوز عني يا أرحم الراحمين، فإن واصل بين العشاءين في مسجد جماعته يكون جامعًا بين الاعتكاف ومواصلة العشاءين، وإن رأى انصرافه إلى منزله وأن المواصلة بين العشاءين في بيته أسلم لدينه وأقرب إلى الإخلاص وأجمع للهم فليفعل.
وسئل رسول الله عليه السلام عن قوله تعالى: ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ المَضَاجِعِ﴾ [السجدة: 16]. فقال: «هي الصلاة بين العشاءين».
وقال عليه السلام: «عليكم بالصلاة بين العشاءين؛ فإنها تذهب بملاغاة النهار، وتهذب آخره». ويجعل من الصلاة بين العشاءين ركعتين بسورة البروج والطارق، ثم ركعتين بعد ركعتين، يقرأ في الأولى عشر آيات من أول سورة البقرة، والآيتين (وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ) [البقرة: 163]، إلى آخر الآيتين، وخمس عشرة مرة (قُلْ هُوَ اللهُ) [الإخلاص: 1]، وفي الثانية «آية الكرسي» و: (آمَنَ الرَّسُولُ) [البقرة: 285]، وخمس عشرة مرة «قل هو الله أحد»، ويقرأ في الركعتين الأخيرتين من سور الزمر والواقعة، ويصلي بعد ذلك ما شاء، فإن أراد أن يقرأ شيئًا من حزبه في هذا الوقت في الصلاة أو غيرها، وإن شاء صلى عشرين ركعة خفيفة بسورة الإخلاص والفاتحة، ولو واصل بين العشاءين بركعتين يطيلهما فحسن، وفي هاتين الركعتين يطيل القيام تاليًا للقرآن حزبه، أو مكررًا آية فيها الدعاء والتلاوة، مثل أن يقرأ مكررًا: ﴿رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾ [الممتحنة: 4]، أو آية أخرى في معناها، فيكون جامعا بين التلاوة والصلاة والدعاء، ففي ذلك جمع للهم، وظفر بالفضل، ثم يصلي قبل العشاء أربعًا، وبعدها ركعتين، ثم ينصرف إلى منزله أو موضع خلوته، فيصلي أربعًا أخرى.
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في بيته أول ما يدخل قبل أن يجلس أربعًا، ويقرأ في هذه الأربع سورة لقمان، ويس، وحم الدخان، وتبارك الملك، وإن أراد أن يخفف فيقرأ فيها آية الكرسي، و: (آمَنَ الرَّسُولُ)، وأول سورة الحديد، وآخر سورة الحشر، ويصلي بعد الأربع إحدى عشرة ركعة، يقرأ فيها ثلاثمئة آية من القرآن، من «والسماء والطارق» إلى آخر القرآن ثلاثمئة آية، هكذا ذكر الشيخ أبو طالب المكي، رحمه الله.
وإن أراد قرأ هذا القدر في أقل من هذا العدد من الركعات، وإن قرأ من سورة الملك إلى آخر القرآن وهو ألف آية، فهو خير عظيم كثير، وإن لم يحفظ القرآن يقرأ في كل ركعة خمس مرات «قل هو أحد» إلى عشر مرات إلى أكثر، ولا يؤخر الوتر إلى آخر التهجد إلا أن يكون واثقًا من نفسه في عادتها بالانتباه للتهجد، فيكون تأخير الوتر إلى آخر التهجد حينئذٍ أفضل.
(وقد كان بعض العلماء) إذا أوتر قبل النوم ثم قام يتهجد يصلي ركعة يشفع بها وتره ثم، يتنفل ما شاء ويوفي آخر ذلك، وإذا كان الوتر من أول الليل يصلي بعد الوتر ركعتين جالسًا، يقرأ فيهما بـ: «إذا زلزلت» و«ألهاكم »، وقيل: فِعْلُ الركعتين قاعدًا بمنزلة الركعة قائمًا، يشفع له الوتر حتى إذا أراد التهجد يأتي به، ويوتر في آخر تهجده، ونية هاتين الركعتين نية النفل لا غير ذلك، وكثيرًا ما رأيت الناس يتفاوضون في كيفية نيتهما، وإن قرأ في كل ليلة المسبحات وأضاف إليها سورة الأعلى فتصير ستًّا، فقد كان العلماء يقرءون هذه السور ويترقبون بركتها، فإذا استيقظ من النوم فمن أحسن الأدب عند الانتباه أن يذهب بباطنه إلى الله، ويصرف فكره إلى أمر الله قبل أن يجول الفكر في شيء سوى الله، ويشغل اللسان بالذكر، فالصادق كالطفل الكَلِفِ بالشيء إذا نام ينام على محبة الشيء، وإذا انتبه يطلب ذلك الشيء الذي كان كلف به، وعلى حسب هذا الكلف والشغل يكون الموت والقيام إلى الحشر؛ فلينظر وليعتبر عند انتباهه من النوم ما همه؛ فإنه هكذا يكون عند القيام من القبر، إن كان همه الله فهمه هو، وإلا فهمه غير الله.
والعبد إذا انتبه من النوم فباطنه عائد إلى طهارة الفطرة، فلا يدع الباطن يتغير بغير ذكر الله تعالى، حتى لا يذهب عنه نور الفطرة الذي انتبه عليه، ويكون فارًّا إلى ربه بباطنه خوفًا من ذكر الأغيار، ومهما وَفَّى الباطن بهذا المعيار فقد انتقى طريق الأنوار وطرق النفحات الإلهية، فجدير أن تنصب إليه أقسام الليل انصبابًا، ويسير جناب القرب له موئلًا ومآبًا، ويقول باللسان: الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور، ويقرأ العشر الأواخر من سورة آل عمران، ثم يقصد الماء الطهور.
قال الله تعالى: ﴿وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ﴾ [الأنفال: 11].
وقال عز وجل: ﴿أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا﴾ [الرعد: 17].
قال عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما-: الماء: القرآن، والأودية: القلوب، فسالت بقدرها، واحتملت ما وسعت، والماء مطهر، والقرآن مطهر، والقرآن بالتطهير أجدر، فالماء يقوم غيره مقامه، والقرآن والعلم لا يقوم غيره مقامه، ولا يسد مسده، فالماء الطهور يطهر الظاهر، والعلم والقرآن يطهران الباطن، ويذهبان رجز الشيطان، فالنوم غفلة، وهو من آثار الطبع، وجدير أن يكون من رجز الشيطان؛ لما فيه من الغفلة عن الله تعالى، وذلك أن الله تعالى أمر بقبض القبضة من التراب من وجه الأرض، فكانت القبضة جلدة الأرض، والجلدة ظاهرها بشرة، وباطنها أدمة.
قال الله تعالى: ﴿إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ﴾ [ص: 71]. فالبشرة والبشر عبارة عن ظاهره وصورته، والأدمة عبارة عن باطنه وآدميته، والآدمية مجمع الأخلاق الحميدة، كان التراب موطئ أقدام إبليس، ومن ذلك اكتسب ظلمة، وصارت تلك الظلمة معجونة في طينة الآدمي، ومنها الصفات المذمومة، والأخلاق الرديئة، ومنها: الغفلة والسهو، فإذا استعمل الماء وقرأ القرآن أتى بالمطهرين جميعا، ويذهب عنه رجز الشيطان وأثر وطأته، ويُحكم له بالعلم والخروج من حيز الجهل، فاستعمال الطهور أمر شرعي، له تأثير في تنوير القلب بإزاء النوم الذي هو الحكم الطبيعي الذي له تأثير في تكدير القلب، فيذهب نور هذا بظلمة ذلك؛ ولهذا رأى بعض العلماء الوضوء مما مست النار، وحكم أبو حنيفة -رحمه الله- بالوضوء من القهقهة في الصلاة، حيث رآها حكما طبيعيًّا جالبًا للإثم، والإثم رجز من الشيطان، والماء يذهب رجز الشيطان، حتى كان بعضهم يتوضأ من الغيبة والكذب وعند الغضب؛ لظهور النفس وتصرف الشيطان في هذه المواطن.
ولو أن المتحفظ المراعي المراقب المحاسب كلما انطلقت النفس في مباحٍ من كلام أو مساكنةٍ إلى مخالطة الناس، أو غير ذلك مما هو بعرضة تحليل عقد العزيمة، كالخوض فيما لا يعني قولًا وفعلًا عقب ذلك بتجديد الوضوء، لثبت القلب على طهارته ونزاهته، ولكان الوضوء لصفاء البصيرة بمثابة الجفن الذي لا يزال بخفة حركته يجلو البصر، وما يعقلها إلا العاملون، فتفكر فيما نبهتك عليه تجد بركته وأثره، ولو اغتسل عند هذه المتجددات والعوارض والانتباه من النوم لكان أزيد في تنوير قلبه، ولكان الأجدر أن العبد يغتسل لكل فريضة باذلًا مجهوده في الاستعداد لمناجاة الله، ويجدد غسل الباطن بصدق الإنابة.
وقد قال الله تعالى: ﴿مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ [الرُّوم: 31]. قدم الإنابة للدخول في الصلاة، ولكن من رحمة الله تعالى وحكم الحنيفية السهلة السمحة أن رفع الحرج، وعوض بالوضوء عن الغسل، وجوز أداء مفترضات بوضوء واحد دفعًا للحرج عن عامة الأمة، وللخواص وأهل العزيمة مطالبات من بواطنهم، تحكم عليهم بالأولى وتلجئهم إلى سلوك طريق الأعلى، فإذا قام إلى الصلاة وأراد استفتاح التهجد يقول: الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بكرة وأصيلًا، ويقول: سبحان الله، والحمد لله، الكلمات عشر مرات، ويقول: الله أكبر ذو الملك والملكوت والجبروت، والكبرياء العظمة، والجلال والقدرة، اللهم لك الحمد أنت نور السماوات والأرض، ولك الحمد أنت بهاء السماوات والأرض، ولك الحمد أنت قيوم السماوات والأرض، ولك الحمد أنت رب السماوات والأرض، ومن فيهن، ومن عليهن، أنت الحق، ومنك الحق، ولقاؤك حق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق، ومحمد عليه السلام حق، اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، أنت المقدم وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت، اللهم آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها، اللهم اهدني لأحسن الأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها، لا يصرف عني سيئها إلا أنت، أسألك مسألة البائس المسكين، وأدعوك دعاء الفقير الذليل، فلا تجعلني بدعائك رب شقيًّا، وكن بي رءوفًا رحيمًا، يا خير المسئولين، ويا أكرم المعطين.
ثم يصلي ركعتين تحية الطهارة، يقرأ في الأولى بعد الفاتحة: ( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ )[النساء: 64] الآية. وفي الثانية: (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُورًا رَحِيمًا) [النساء: 110]، ويستغفر بعد الركعتين مرات، ثم يستفتح الصلاة بركعتين خفيفتين، إن أراد يقرأ فيهما بآية الكرسي، و: (آمَنَ الرَّسُولُ)[البقرة: 285] وإن أراد غير ذلك، ثم يصلي ركعتين طويلتين. هكذا روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه كان يتهجد هكذا، ثم يصلي ركعتين طويلتين أقصر من الأوليين، وهكذا يتدرج إلى أن يصلي اثنتي عشرة ركعة، أو ثمان ركعات، أو يزيد على ذلك فضلًا كثيرًا، والله أعلم.
إذا فرغ المؤذن من أذان المغرب يصلي ركعتين خفيفتين بين الأذان والإقامة، وكان العلماء يصلون هاتين الركعتين في البيت، يعجلون بهما قبل الخروج إلى الجماعة كيلا يظن الناس أنهما سنة مرتبة، فيقتدى بهم ظنًّا منهم أنهما سنة، وإذا صلى المغرب يصلي ركعتي السنة السنة بعد المغرب، يعجل بهما؛ فإنهما يرفعان مع الفريضة، يقرأ فيهما بـ: «قل يا أيها الكافرون» و«قل هو الله أحد»، ثم يسلم على ملائكة الليل والكرام الكاتبين، فيقول: مرحبًا بملائكة الليل، مرحبًا بالملكين الكريمين
الكاتبين، اكتبا في صحيفتي أني أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله، وأشهد أن الجنة حق، والنار حق، والحوض حق، والشفاعة حق، والصراط والميزان حق، وأشهد أن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، اللهم أودعك هذه الشهادة ليوم حاجتي إليها، اللهم احطط بها وزري، واغفر بها ذنبي، وثقل بها ميزاني، وأوجب لي بها أماني، وتجاوز عني يا أرحم الراحمين، فإن واصل بين العشاءين في مسجد جماعته يكون جامعًا بين الاعتكاف ومواصلة العشاءين، وإن رأى انصرافه إلى منزله وأن المواصلة بين العشاءين في بيته أسلم لدينه وأقرب إلى الإخلاص وأجمع للهم فليفعل.
وسئل رسول الله — عن قوله تعالى: ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ المَضَاجِعِ﴾ [السجدة: 16]. فقال: «هي الصلاة بين العشاءين».
وقال —: «عليكم بالصلاة بين العشاءين؛ فإنها تذهب بملاغاة النهار، وتهذب آخره». ويجعل من الصلاة بين العشاءين ركعتين بسورة البروج والطارق، ثم ركعتين بعد ركعتين، يقرأ في الأولى عشر آيات من أول سورة البقرة، والآيتين +وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ_ [البقرة: 163]، إلى آخر الآيتين، وخمس عشرة مرة +قُلْ هُوَ اللهُ_ [الإخلاص: 1]، وفي الثانية «آية الكرسي» و: +آمَنَ الرَّسُولُ_[البقرة: 285]، وخمس عشرة مرة «قل هو الله أحد»، ويقرأ في الركعتين الأخيرتين من سور الزمر والواقعة، ويصلي بعد ذلك ما شاء، فإن أراد أن يقرأ شيئًا من حزبه في هذا الوقت في الصلاة أو غيرها، وإن شاء صلى عشرين ركعة خفيفة بسورة الإخلاص والفاتحة، ولو واصل بين العشاءين بركعتين يطيلهما فحسن، وفي هاتين الركعتين يطيل القيام تاليًا للقرآن حزبه، أو مكررًا آية فيها الدعاء والتلاوة، مثل أن يقرأ مكررًا: ﴿رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾ [الممتحنة: 4]، أو آية أخرى في معناها، فيكون جامعا بين التلاوة والصلاة والدعاء، ففي ذلك جمع للهم، وظفر بالفضل، ثم يصلي قبل العشاء أربعًا، وبعدها ركعتين، ثم ينصرف إلى منزله أو موضع خلوته، فيصلي أربعًا أخرى.
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في بيته أول ما يدخل قبل أن يجلس أربعًا، ويقرأ في هذه الأربع سورة لقمان، ويس، وحم الدخان، وتبارك الملك، وإن أراد أن يخفف فيقرأ فيها آية الكرسي، و: +آمَنَ الرَّسُولُ_، وأول سورة الحديد، وآخر سورة الحشر، ويصلي بعد الأربع إحدى عشرة ركعة، يقرأ فيها
ثلاثمئة آية من القرآن، من «والسماء والطارق» إلى آخر القرآن ثلاثمئة آية، هكذا ذكر الشيخ أبو طالب المكي، رحمه الله.
وإن أراد قرأ هذا القدر في أقل من هذا العدد من الركعات، وإن قرأ من سورة الملك إلى آخر القرآن وهو ألف آية، فهو خير عظيم كثير، وإن لم يحفظ القرآن يقرأ في كل ركعة خمس مرات «قل هو أحد» إلى عشر مرات إلى أكثر، ولا يؤخر الوتر إلى آخر التهجد إلا أن يكون واثقًا من نفسه في عادتها بالانتباه للتهجد، فيكون تأخير الوتر إلى آخر التهجد حينئذٍ أفضل.
(وقد كان بعض العلماء) إذا أوتر قبل النوم ثم قام يتهجد يصلي ركعة يشفع بها وتره ثم، يتنفل ما شاء ويوفي آخر ذلك، وإذا كان الوتر من أول الليل يصلي بعد الوتر ركعتين جالسًا، يقرأ فيهما بـ: «إذا زلزلت» و«ألهاكم »، وقيل: فِعْلُ الركعتين قاعدًا بمنزلة الركعة قائمًا، يشفع له الوتر حتى إذا أراد التهجد يأتي به، ويوتر في آخر تهجده، ونية هاتين الركعتين نية النفل لا غير ذلك، وكثيرًا ما رأيت الناس يتفاوضون في كيفية نيتهما، وإن قرأ في كل ليلة المسبحات وأضاف إليها سورة الأعلى فتصير ستًّا، فقد كان العلماء يقرءون هذه السور ويترقبون بركتها، فإذا استيقظ من النوم فمن أحسن الأدب عند الانتباه أن يذهب بباطنه إلى الله، ويصرف فكره إلى أمر الله قبل أن يجول الفكر في شيء سوى الله، ويشغل اللسان بالذكر، فالصادق كالطفل الكَلِفِ بالشيء إذا نام ينام على محبة الشيء، وإذا انتبه يطلب ذلك الشيء الذي كان كلف به، وعلى حسب هذا الكلف والشغل يكون الموت والقيام إلى الحشر؛ فلينظر وليعتبر عند انتباهه من النوم ما همه؛ فإنه هكذا يكون عند القيام من القبر، إن كان همه الله فهمه هو، وإلا فهمه غير الله.
والعبد إذا انتبه من النوم فباطنه عائد إلى طهارة الفطرة، فلا يدع الباطن يتغير بغير ذكر الله تعالى، حتى لا يذهب عنه نور الفطرة الذي انتبه عليه، ويكون فارًّا إلى ربه بباطنه خوفًا من ذكر الأغيار، ومهما وَفَّى الباطن بهذا المعيار فقد انتقى طريق الأنوار وطرق النفحات الإلهية، فجدير أن تنصب إليه أقسام الليل انصبابًا، ويسير جناب القرب له موئلًا ومآبًا، ويقول باللسان: الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور، ويقرأ العشر الأواخر من سورة آل عمران، ثم يقصد الماء الطهور.
قال الله تعالى: ﴿وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ﴾ [الأنفال: 11].
وقال عز وجل: ﴿أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ
بِقَدَرِهَا﴾ [الرعد: 17].
قال عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما-: الماء: القرآن، والأودية: القلوب، فسالت بقدرها، واحتملت ما وسعت، والماء مطهر، والقرآن مطهر، والقرآن بالتطهير أجدر، فالماء يقوم غيره مقامه، والقرآن والعلم لا يقوم غيره مقامه، ولا يسد مسده، فالماء الطهور يطهر الظاهر، والعلم والقرآن يطهران الباطن، ويذهبان رجز الشيطان، فالنوم غفلة، وهو من آثار الطبع، وجدير أن يكون من رجز الشيطان؛ لما فيه من الغفلة عن الله تعالى، وذلك أن الله تعالى أمر بقبض القبضة من التراب من وجه الأرض، فكانت القبضة جلدة الأرض، والجلدة ظاهرها بشرة، وباطنها أدمة.
قال الله تعالى: ﴿إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ﴾ [ص: 71]. فالبشرة والبشر عبارة عن ظاهره وصورته، والأدمة عبارة عن باطنه وآدميته، والآدمية مجمع الأخلاق الحميدة، كان التراب موطئ أقدام إبليس، ومن ذلك اكتسب ظلمة، وصارت تلك الظلمة معجونة في طينة الآدمي، ومنها الصفات المذمومة، والأخلاق الرديئة، ومنها: الغفلة والسهو، فإذا استعمل الماء وقرأ القرآن أتى بالمطهرين جميعا، ويذهب عنه رجز الشيطان وأثر وطأته، ويُحكم له بالعلم والخروج من حيز الجهل، فاستعمال الطهور أمر شرعي، له تأثير في تنوير القلب بإزاء النوم الذي هو الحكم الطبيعي الذي له تأثير في تكدير القلب، فيذهب نور هذا بظلمة ذلك؛ ولهذا رأى بعض العلماء الوضوء مما مست النار، وحكم أبو حنيفة -رحمه الله- بالوضوء من القهقهة في الصلاة، حيث رآها حكما طبيعيًّا جالبًا للإثم، والإثم رجز من الشيطان، والماء يذهب رجز الشيطان، حتى كان بعضهم يتوضأ من الغيبة والكذب وعند الغضب؛ لظهور النفس وتصرف الشيطان في هذه المواطن.
ولو أن المتحفظ المراعي المراقب المحاسب كلما انطلقت النفس في مباحٍ من كلام أو مساكنةٍ إلى مخالطة الناس، أو غير ذلك مما هو بعرضة تحليل عقد العزيمة، كالخوض فيما لا يعني قولًا وفعلًا عقب ذلك بتجديد الوضوء، لثبت القلب على طهارته ونزاهته، ولكان الوضوء لصفاء البصيرة بمثابة الجفن الذي لا يزال بخفة حركته يجلو البصر، وما يعقلها إلا العاملون، فتفكر فيما نبهتك عليه تجد بركته وأثره، ولو اغتسل عند هذه المتجددات والعوارض والانتباه من النوم لكان أزيد في تنوير قلبه، ولكان الأجدر أن العبد يغتسل لكل فريضة باذلًا مجهوده في الاستعداد لمناجاة الله، ويجدد
غسل الباطن بصدق الإنابة.
وقد قال الله تعالى: ﴿مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ [الرُّوم: 31]. قدم الإنابة للدخول في الصلاة، ولكن من رحمة الله تعالى وحكم الحنيفية السهلة السمحة أن رفع الحرج، وعوض بالوضوء عن الغسل، وجوز أداء مفترضات بوضوء واحد دفعًا للحرج عن عامة الأمة، وللخواص وأهل العزيمة مطالبات من بواطنهم، تحكم عليهم بالأولى وتلجئهم إلى سلوك طريق الأعلى، فإذا قام إلى الصلاة وأراد استفتاح التهجد يقول: الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بكرة وأصيلًا، ويقول: سبحان الله، والحمد لله، الكلمات عشر مرات، ويقول: الله أكبر ذو الملك والملكوت والجبروت، والكبرياء العظمة، والجلال والقدرة، اللهم لك الحمد أنت نور السماوات والأرض، ولك الحمد أنت بهاء السماوات والأرض، ولك الحمد أنت قيوم السماوات والأرض، ولك الحمد أنت رب السماوات والأرض، ومن فيهن، ومن عليهن، أنت الحق، ومنك الحق، ولقاؤك حق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق، ومحمد — حق، اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، أنت المقدم وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت، اللهم آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها، اللهم اهدني لأحسن الأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها، لا يصرف عني سيئها إلا أنت، أسألك مسألة البائس المسكين، وأدعوك دعاء الفقير الذليل، فلا تجعلني بدعائك رب شقيًّا، وكن بي رءوفًا رحيمًا، يا خير المسئولين، ويا أكرم المعطين.
ثم يصلي ركعتين تحية الطهارة، يقرأ في الأولى بعد الفاتحة: +وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ_ [النساء: 64] الآية. وفي الثانية: +وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُورًا رَحِيمًا_ [النساء: 110]، ويستغفر بعد الركعتين مرات، ثم يستفتح الصلاة بركعتين خفيفتين، إن أراد يقرأ فيهما بآية الكرسي، و: +آمَنَ الرَّسُولُ_[البقرة: 285] وإن أراد غير ذلك، ثم يصلي ركعتين طويلتين. هكذا روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه كان يتهجد هكذا، ثم يصلي ركعتين طويلتين أقصر من الأوليين، وهكذا يتدرج إلى أن يصلي اثنتي عشرة ركعة، أو ثمان ركعات، أو يزيد على ذلك فضلًا كثيرًا، والله أعلم.