الغفلة والمعصية والرزق
فهذه الحقيقة تُبَيِّنُ طريقك، ولكن من أماتَتْهُ الغَفْلَةُ لم ترده النكبات؛ لأنَّ المرأةَ الناقصة العقل يموتُ ولدها وهي تضحك، فكذلك أنت تنكب عن قيام الليل وصيام النهار وفي جميع جوارحك ولا تتألم، وما ذلك إلا لغفلتك؛ لأن الغفلة قد أماتت قلبك؛ لأن الحي يؤلمه وخز الإبر، ولو قطع الميت بالسيوف لم يتألم، فأنت حينئذٍ ميت القلب.
فاجلس مجلس الحكمة؛ فمجلس الحكمة فيه نفحةٌ من نفحات الجنة تجدُها في طريقك وفي دارك وفي بيتك فلا يَفُتْك المجلس ولو كنت على معصية.
ولا تقُلْ: ما الفائدة في حضور المجلس وأنا أعصي ولا أقدر على ترك المعصية؟! بل على الرامي أن يرمي، فإن لم يأخذ اليوم يأخذ غدًا.
يا هذا، إياك والمعصيةَ فقد تكون سببًا لتوقُّفِ الرزق([1])، فاطلب من الله التوبة، فإن قبلتَ وإلا فاستغث بالله وقل: ﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ﴾([2])، ولا تكن كمن أتى عليه أربعون سنةً ولم يقرَع بابَ الله قطُّ.
ولكن أكثر ما يُخَافُ عليك سوءُ الخاتمة -والعياذ بالله- بسبب إطفاء جمرة الإيمان بسوء العصيان([3])، وهي الذنوب على الذنوب حتى يَسْوَدَّ القلب من غير توبة.
إياكَ أن تتهاوَنَ في أعمالِكَ وتختار الطَّيِّبَات لمرحاضك، واحذرْ نفسَكَ التي بين جَنْبَيْكَ؛ فهي التي تغلب عليك، ثم هي لا تفارق صاحِبَهَا إلى المَمَاتِ، والشيطانُ يفارق في رمضان، لأنه تُغَلُّ فيه الشياطين، وربما تجد من يقتل ويسرق في رمضان، فهَذَا من النفس، فإذا مالتِ النفسُ إلى معصيةٍ فذكِّرها بعذابِ الله والقطيعة عن الله بسببه.
والعسلُ المسمومُ يترك مع العلم بحلاوَتِهِ؛ لِمَا فيه من وجود الأذى؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ»، ويُرْوَى أيضًا: «جيفة قذرة»([4])، عند مرائي النفوس: «جِيفَةٌ قَذِرَةٌ» عند مرائي القلوب.
«حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ» عند أهل الغفلة، و«جِيفَةٌ قَذِرَةٌ» عند العقلاء.
«حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ» للتحذير، و«جِيفَةٌ قَذِرَةٌ» للتَّنْفِيرِ، فلا تخدعنَّكُمْ بحلاوَتِهَا فإنَّ عاقبتَهَا مُرَّة([5]).
إذا قيل لك: من المؤمن؟ فقل: الذي اطَّلع على عيبِ نفسه ولم ينسب أحدًا من العباد إلى عيب.
وإذا قيل لك: من المخذولُ؟ فقل: الذي ينسب العباد إلى العيب، ويبرئ نفسه منه.
وممَّا تمادَى عليه أهلُ هذا الزَّمَانِ مباسطَتُهُم ومؤانَسَتُهُم العاصينَ، ولو أنهم عبسوا في وجوههم؛ لكان ذلك زَاجِرًا لهم عن المعصية([6]).
([1]) روي عنه صلى الله عليه وسلم قوله: «إِنَّ الْعَبْدَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بِالذَّنْبِ يُصِيبُهُ».
([2]) من الآية [23]، من سورة الأعراف وتمامها: ﴿قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ﴾.
([3]) كما قال العلماء: المعاصي بريدُ الكفر. ومع ذلك من كان عمله صالحًا فلا يغترَّ ويدِّعي لنفسه حسنَ الخاتمة؛ فإنه بين المشيئة كما ورد في الحديث: «إن العبد ليعمل بعمل أهل الجنة حتى لا يكون بينه وبين الجنة إلا شبر، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها».
([4]) الحديث رَوَاهُ الإمام مسلم والترمذي وأحمد وابن حِبَّانَ بلفظ: «حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ»، ورواية «جِيفَةٌ قَذِرَةٌ»، لم أجِدْهَا في الكُتُبِ التِّسْعَةِ، فلعلها في غيرها من الكتب أو المسانيد؛ لسعة اطلاع ومعرفة المصنف رحمه الله تعالى.
هي الدنيا تقول بملءِ فيها |
* | حذارِ حذار من بطشي وفتكي |
فلا يغررنكم مني ابتسامٌ | * | فقولي مضحِكٌ والفعل مُبكي |
([6]) لأنه كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يكونن أحدكم عونًا للشيطان على أخيه» فإنه إذا باسَطَهُم وآنسَهُم لم يعبَأ أحدهم بالمعصِيَةِ ولم يهتم بها وأغواه الشيطان.
بابُ الكمال