مثال العبد مع الله
ومثال العبد مع الله: في هَذِهِ الدَّارِ كالطفل مع أمِّهِ، ولم تكن الأم تمنع ولدها من كفالتها، ولا أن تحجبه من رعايتها، كذلك المؤمن مع الله قائمٌ له ربه بحسن الكفالة، فهو سائق إليه المنن ودافع عنه المحن.
ومثال العبدِ في الدنيا كمثل عبد قال له السيد: اذهَبْ إلى أرضِ كذا، وأحكم أمرك أن تسافر منها في بَرِّيَّةِ كَذَا وكَذَا، وخُذْ أهبتك وعدَّتك، فإذا أذن له السيد في ذلك فمعلوم أنه قد أباح له أن يأكل ما يستعين به على إقامة بنيته ليسعى في طلب العدة، وليقوم بوجود الأهبة، كذلك العبد مع الله تعالى أوجده في هذه الدار، وأمره أن يَتَزَوَّدَ منها لمِيعَادِهِ، فقال الله تعالى: ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾([1])؛ فمعلوم أنه إذا أمره بالزاد للآخرة فقد أباح له أن يأخذ من الدنيا ما يستعين به على تزوده إلى الآخرة، واستعداده وتأهبه لمعاده.
ومثال العبد مع الله: كمثل أجير أَتَى به ملك إلى دارِهِ وأمره أن يعمل عملًا، فما كان الملك ليأتي بالأجير ويستخدمه في داره ويتركه من غير تغذية؛ إذ هو أكرم من ذلك، كذلك العبد مع الله.
الدنيا دار الله، والأجير هو أنت، والعمل هو الطاعة، والأجرة هي الجنة، ولم يكن اللهُ ليأمُرَكَ بالعَمَلِ ولا يسوق لك ما به تستعين.
ومثال العبد مع الله: كمثال عبد أَمَرَهُ الملك أن يُقِيمَ في أرض كذا ويحارِبَ فيها العدو، ويجاهِدَهُ فيها، فمعلوم أنه إذا أمره بذلك يبيح له أن يأكل من مخازن تلك الأرض بالأمانة؛ ليستعين به على محاربة العدو، فكذلك العباد أمرهم الحق سبحانه بمحاربة الشيطان، ومجاهدة النفوس، لقوله تعالى: ﴿وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ﴾([2])، وقال تعالى: ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا﴾([3]).
فكما أمر العبد بمحاربته أذن له أن يتناول من منته ما يستعين به على محاربة الشيطان؛ إذ لو تركت المأكل والمشرب لم يمكنك أن تقوم بطاعته، ولا أن تنهض لخدمته.
ومثال العبد مع الله: كمثل ملك له عبيد بنى لهم دارًا، وأبهجها وحسنها، وتولَّى غراسها، وكمل المشتهيات فيها في غير الموطن الذي هم فيه، وهو يريد أن ينقلهم إليها، أترى إذا كانت هذه عنايته بهم فيما ادَّخَرَهُ لهم عنده، وهيأه لهم بعد الرحلة، أيمنعهم ها هنا أن يتناولوا من مِنَّتِهِ وفضلات طعامه، وهو قد هَيَّأَ لهم الأمر العظيم والفضل الجسيم، كذلك العباد مع الله تعالى جعلهم في الدنيا، وهيأ لهم الجنة، فلا يريد أن يمنعهم من الدنيا وأكل ما يقيم به وجودهم.
إذ لو كان فاهِمًا عاقلًا لتَأَهَّبَ للدار الآخرة التي هو مسئولٌ عنها، وموقوفٌ فيها، فلا يشتغل بأمر الرزق؛ فإن الاهتمام به بالنسبة للآخرة نسبة الذباب إلى مفاجآت الأسد وهجومه.
ومِثَالُ المدخر للأمَانَةِ كعبدٍ للملك لا يرى له مع سيده شيئًا، لا يعتمد على ادِّخَارِ ما في يَدِهِ ولا بذله إلا ما اختاره السيد له، فإذا فهم هذا العبد أنَّ الإمساك مرادُ السَّيدِ أمسك لسيده لا لنفسه حتى يَتَخَيَّرَ موضع صرفه، فيكون له صارفًا حين يفهم من سيده إرادة صرفه له، فهذا بإمساكه غير ملوم؛ لأنه أمسك لسيده لا لنفسه، كذلك أهل المعرفة بالله، إن بذلوا ففيه، وإن أمسكوا فله، يبتغون ما فيه رضاه، لا يريدون ببذلهم وإمساكهم إلا إياه؛ فهم خزَّانٌ أمناء، وعبيد كبراء، وأبرار كرماء، قد حررهم الحقُّ من رقِّ الآثار، فلم يميلوا إليها بحبٍّ، ولم يقبلوا عليها بود.
مَنَعَهُم من ذَلِكَ ما أسكنه في قلوبهم من حُبِّ الله ووده، وما امتلأت به صُدُورُهُم من عظمته ومجده، فصارت الأشياء في أيديهم كهي في خزائن الله من قبلِ أن تَصِلَ إليهم؛ علمًا منهم بأن الله يملِكهم ويملك ما يملكهم.
بيانٌ وهداية